وذكر الرماني أنّ البيان "هو الإحضار لما يُظْهَر به تميّزُ الشيء من غيره في الإدراك" (10)؛ فالبيان مرتبط بإظهار ما يمكن أن يتميّز به الشيء عن غيره. وأوضح أنّه على أربعة أقسام؛ كلام وحال وإشارة وعلامة، وربط الكلام المبين بالقول الواضح المفهم. كما ذكر أنَّ البيان في كلامه يكون عن طريق كيفيات معيّنة، فـ "لا يخلو من أن يكون باسم أو صفة أو تأليف من غير اسم بمعنى أو صفة ... ودلالة الأسماء والصفات متناهية، فأمّا دلالة التأليف فليس لها نهاية، ولهذا صحّ التحدِّي فيها بالمعارضة لتظهر المعجزة" (11). فالقرآن الكريم كلام مبين، تحدَّى به الله سبحانه وتعالى البشر في بيانه التأليفي، ولذلك وُصِف بالبيان في أعلى مراتبه.
وقد بيَّن هذه القضية أكثر الرماني حينما قرّر أنّ "حسن البيان في الكلام على مراتب، فأعلاها مرتبة ما جمع أسباب الحسن في العبارة من تعديل النظم حتى يحسن في السمع، ويسهل على اللسان، وتتقبّله النفس تقبّل البَرَد، وحتّى يأتي على مقدار الحاجة فيما هو حقّه من المرتبة" (12). فأدنى تأمّل لهذا التوضيح يقودنا إلى التأكيد على أنّ حسن البيان في الكلام مرتهن بمجموعة من الأسس وهي:
ـ الإجادة في تأليف العبارة والدقّة في نظم علاقات ألفاظها.
ـ التأثير في المتلقِّي؛ أي ما طربت له الأذن وانساقت له الأسماع.
ـ السهولة واليسر في المنطَق؛ أي ما نطقت به الألسنة نطقاً سهلاً واضحاً لا عيَّ فيه.
ـ استمالة عقول الآخرين؛ أي ما كان له وقع الأنفس، فاشتاقت له وهامت به.
ـ موافقته للحاجة المعبَّر عنها؛ أي ما جاء وافقاً للغاية التي لأجلها وُصف بهذه الصفة.
فالبيان مرتبط بخصوصيات تضبطه؛ أي خرق لها يؤدّي إلى ضياع هذه المزيّة. ولما كان القرآن الكريم قد توافرت فيه هذه المميزات وُصِف بأنّه في نهاية حسن البيان عن الحاجات. ومن صوّر ذلك قوله تعالى: (إنَّ المُتَّقينَ في مَقَامِ أَمينِ ((13)، فهذا من أحسن الوعد والوعيد. وقال تعالى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُو بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ((14)، فهذا البيان ـ كما يرى الرماني ـ أبلغ ما يكون من الحِجاج (15). فحسن البيان ووجهه ارتبط بالحِجاج في هذه الآية، ولكن قبل الكشف عن طبيعة البيان الحِجاجي وتداعياته من الضروري أن نعطي لمحة عامّة حول الحِجاج في الاستعمال اللغوي.
3 ـ حول مفهوم الحِجاج في الدرس اللغوي:
يعتبر البحث في "الحِجاج" من نتائج التحوُّل العميق الذي اكتنف الدرس البلاغي الحديث، وكان من إفرازاته أن تخلّت البلاغة عن نزعتها المعياريّة في فرض القواعد، لتهتم برصد الوقائع فقط. وقد كان من أهم أسبابه التغيّر الجذري الذي مسَّ البحوث اللسانيّة بوجه عام.
لقد كشف تجدّد الاهتمام بالدرس البلاغي في العصر الحديث عن طروحات علميّة مغايرة، أدّى إلى ظهور بلاغة جديدة. ويذكر "إيفانوكس" أنّ النجاح الحالي لها "قد اعتمد على العلاقة اللازمة بين البلاغة ودراسة وسائل الإقناع في مجتمع يتّجه يوماً بعد يوم نحو علوم التحريض والدعاية، فسيادة وسائل الإعلام في ثقافتنا تجعل من الخطابة بوصفها ممارسة إبداعيّة للإقناع، ومن البلاغة بوصفها تقنية ملائمة للإقناع أيضاً، نقطتي إحالة لابدّ منهما في لحظة سيستعيد فيها الشعب المستهلك السيادة على القديم ...
وعلى أيّة حال فإنّنا نعيش لحظة استراتيجيّة الإقناع والتركيز على أدوات الحضور" (16). وقد أضحى "الحِجاج في رحاب هذا التحوّل مطلباً أساسياً في كلِّ عمليّة اتّصالية تستدعي الإفهام والإقناع. وانطلاقاً من الدور البالغ الذي أصبحت نظريّة الحِجاج تلعبه، أو من المفروض أن تلعبه، جعل "بريلمان Perelman" يعتبر أنّ البلاغة مطابقة لنظريّة الحِجاج؛ فقد حصر الأولى في الأخيرة (17).
¥