تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفي اللغة "حاججته أحاجُّه حجاجاً ومحاجَّة من حجَجْتُه بالحجج التي أدليت بها. والحجَّة البرهان، وقيل الحجّة ما دُوفع به الخصم. وقال الأزهري: الحجّة الوجه الذي يكون الظفر عند الخصومة، وجمع الحجّة حجج وحِجاج. وحاجّه محاجَّه وحِجاجاً نازعة الحجّة. وحجَّة يحجُّه حجّاً غلبه على حجَّتِه، وفي الحديث "فحجَّ آدم موسى"؛ أي غلبه بالحجَّة واحتجَّ بالشيء اتَّخذه حجَّة، قال الأزهري: إنّما سُمِّيت حجّة لأنَّها تُحَجّ؛ أي تقصد، لأنّ القصد لها وإليها" (18). وقال الجرجاني: "الحجّة ما دُلَّ به على صحّة الدعوى، وقيل الحجّة والدليل واحد" (19). فأساس الحِجاج الارتكاز على دليل معيّن قصد إثبات قضية من القضايا، وبالتالي بناء موقف ما.

ولعلّ أهم شيء تتأسّس عليه دلالة "الحِجاج" هو وجود اختلاف بين المرسل للرسالة اللغويّة والمتلقِّي لها، ومحاولة الأوّل إقناع الثاني بوجهة نظره، بتقديم الحجّة والدليل على ذلك. فالحِجاج انتهاج طريقة معيّنة في الاتِّصال، غايته استمالة عقول الآخرين والتأثير فيهم، وبالتالي إقناعهم بمقصد معيّن.

وهذا المفهوم هو الجوهر الذي ركّزت عليه الخطابة الجدية؛ إذ "تُطلق لفظة حِجاج ومحاججة Argumintation عند بيرلمان وتيتيكاه على العلم وموضوعه، ومؤدّاها درس تقنيات الخطاب التي تؤدِّي بالذهن إلى التسليم بما يعرض عليه من أطروحات، أو أن تزيد في درجة التسليم. وربّما كانت وظيفته محاولة جعل العقل يذعن لما يُطرح عليه من أفكار، أو يزيد في درجة ذلك الإذعان إلى درجة تبعث على العمل المطلوب .. وعلى صعيد آخر يمكن القول بأنّ الحِجاج في ارتباطه بالمتلقِّي يؤدِّي إلى حصول عمل ما أو الإعداد له، ومن ثم سيكون فحص الخطابات الحجاجيّة المختلفة بحثاً في صميم الأفعال الكلامية وأغراضها السياقيّة، وعلاقة الترابط بين الأقوال، والتي تنتمي إلى البنية اللغويّة الحِجاجيّة" (20)، فوظيفة الحِجاج ترتدّ إلى طرح الحجج التي تضمن النفاذيّة للخطاب اللغوي، وبالتالي حصول الاقتناع الفعلي بالقضية المطروحة. وهذا يعني توظيف الآليات التي تجتاز الاعتقاد الأوّلي نحو التغيير، وبناء الموقف المغاير.

وإذا كان الحِجاج يرتبط في أساسه بما تستدعيه أساليب إجراء اللغة، فإنّه من الضروري أن نشير إلى أنّ هذا الأمر لا يتوقَّف عند هذا الحدِّ؛ بل يأخذ بعين الاعتبار ما تقتضيه نوعيّة الخطاب من جهة، ومستلزمات المتلقي من جهة أخرى. فالغاية التي يتأسَّس عليها هي مجابهة العقول وإقناعها بالطرح المقدَّم، ولذا "فليس الحِجاج في النهاية سوى دراسة لطبيعة العقول، ثم اختيار أحسن السبل لمحاورتها، والإصغاء إليها ثم محاولة حيازة انسجامها الإيجابي والتحامها مع الطرح المقدّم. فإذا لم توضع هذه الأمور النفسيّة والاجتماعيّة في الحسبان فإنّ الحِجاج يكون بلا غاية وبلا تأثير" (21). لندرك أنّ نظرية الحِجاج تتجاذبها جوانب مختلفة، لا تتعلّق باللغة فحسب؛ بل ترتبط أيضاً بالجانب النفسي والاجتماعي والثقافي، وغيره من المستلزمات التي تؤطّر وتسهم في إنتاج الخطاب اللغوي الحجاجي.

4 ـ حول البيان الحِجاجي في الاستعمال اللغوي:

بعد تقديم مفهومي "البيان" و"الحِجاج" في الدرس اللغوي نستطيع الآن أن نعرِّف البيان الحِجاجي ونقول إنَّه الكشف والإيضاح عن المعنى المقصود بتوظيف الحجّة التي تتمكَّن من النفوس والعقول معاً. والهدف ههنا ليس الفهم والإفهام فحسب؛ بل إنّ الأمر يتعلَّق بالتأثير والإقناع بالطرح المقدَّم؛ لأنّ مجال الحِجاج كما ذكرنا من قبل هو شبه الحقيقي أو المحتمل أو المشكوك فيه، فهو قائم على طروحات مقبولة، إلاّ أنّ البعض منها يبقى مبنياً على الاحتمال. ومنه يتجلَّى الفرق بين الحِجاج والبرهان باعتبار أنّ هذا الأخير مجاله البديهي لدى الناس؛ فهو ينطلق من اتِّساقات صحيحة وبديهيّة، أمّا الحِجاج فيرتبط بما هو متعدِّد الدلالة؛ أي الجدير بالظنِّ المعقول والمقبول.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير