6 ـ عدم الانبهار بآراء الكبار والمشاهير واعتبار ما يقولونه حقائق لا تنقض، وهذا ما يسميه فرانسيس بيكون "أوهام المسرح"، وقد عرفها بأنها تلك التي انتقلت إلينا من الفلاسفة والمفكرين، أي تلك الأفكار التي نتلقاها دون تمحيص. ولذلك فإن (بيكون) اقترح علينا أن نتحلى بالعقل النقدي أكثر من النقلي كي نؤسس لمعرفة سليمة.
وهو منظور إسلامي قبل ميلاد بيكون بقرون، ونجد ذلك في عشرات من الآيات القرآنية، ومنها قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) ? (المائدة).
ومن قبيل الإنصاف أُذكر القارئ بأن سيد قطب ترك عشرات من الكتب في الإسلاميات والأدب والنقد والشعر، وكَتَبَت عنه عشرات من الأطروحات الجامعية (ماجستير ودكتوراه) غير أن الذي دفعني إلى ذكر هذه القواعد المنهجية المعروفة أن كثيرين يَلِغون بأقلامهم في شخصية سيد قطب رحمه الله، اعتمادًا على كتابه "معالم في الطريق"، معزولاً عن بقية أعطياته الفكرية الأخرى، وعلى نحوٍ فيه من التطرف والإسراف والشطط والتهويل الكثير والكثير.
وسيد قطب رحمه الله لقي ربه مظلومًا، فقد واجهه الحكام الظالمون باتهامات لا أساس لها من الصحة، وليس هذا هو موضوع مقالنا، ولكني أتحدث عن بعض الظلم الذي امتد إليه بعد مماته. ومن ذلك:
أنه بعد إعدامه رحمه الله عملت الأقلام عملها، ولا أقصد الأقلام المريضة التي تكتب في الصحف الصفراء الكالحة، ولكني أقصد ما شاهدته من كتب مطبوعة طباعة فاخرة في بعض البلاد العربية وتباع بأسعار رمزية، وكلها مطاعن في الإخوان ودعوتهم وقادتهم، ونال سيد قطب منها الحديث الأوفى: "فهو باطني يدعو إلي عقيدة "الحلول" ووحدة الوجود, وهو يناصر دعوة عبد الله بن سبأ اليهودي, وأنه عاش طيلة حياته رقيق الدين, مستهينًا بالعقيدة. وأنه .. وأنه ...
ولو صحت هذه الافتراءات التي كتبها "علماء" (!!!) طوال اللحى لكان سيد قطب زنديقًا مارقًا من الملة والعياذ بالله.
وظلم باللسان ..
وفي هذا المقام أذكر واقعة تتلخص في أن أحد العلماء المصريين زار الكويت سنة 1974م, وهو معروف عنه في كتاباته بانتصاره للتراث العربي وحملاته على التغريب, وأنا أشهد له بذلك.
ومعروف أن "الديوانيات" لازمة من لوازم المجتمع الكويتي .. والديوانية قاعة واسعة تُفتح مساء كل خميس, ويحضرها من يشاء, وهم غالبًا من أهل الأدب والعلم وذوي الوجاهة في المجتمع, ويناقَش فيها موضوع أو موضوعات متعددة .. بصورة عفوية. والكلام ذو شجون.
ورحب صاحب الديوانية بالعالم الضيف، ونقل إليّ أكثر من واحد تفاصيل ما حدث: كان "العالم" هو المتحدث الرئيسي .. بل المتحدث الوحيد, وبدأ بداية سيئة بالهجوم الشديد على الإخوان ومرشدهم حسن البنا، ووصفهم
"بالعمالة", وقدم الدليل "الحاسم جدًّا" على هذه الإدانة بأن جماعة الإخوان نشأت في منطقة الإسماعيلية؛ حيث يهيمن المستعمرون الإنجليز ويسيطرون على كل الأجهزة في الإسماعيلية ومنطقة قناة السويس.
فلما اعترض أحد الطلاب الجامعيين بقوله: هذا شأن كل الدعوات تنشأ في مناطق صعبة وبلاد عديمة الإيمان .. شأنها شأن مكة .. نهره الأستاذ الكبير بحدَّة .. وصرخ في وجهه: أتشبه حسن البنا برسول الله صلى الله عليه وسلم؟! يا "أخينا أنت" .. يوم ما تِعْرَف إزاي تتطهر من النجاسة .. "ابقى" تعال جادل أسيادك. وانسحب الطالب من الديوانية ومعه عدد من الحاضرين وهم يشعرون بالأسى والحزن.
وجاء الدور على سيد قطب
ولما سأله أحدهم عن رأيه في ظلال القرآن امتقع وجهه, وانطلق يجرّح "سيد قطب" بألفاظ لا تصدر من مسلم يملك الحد الأدنى من الذوق والأدب؛ مما يدفعنا إلى إغفالها, وكان أكثر ما قاله اعتدالاً هو: الإخوان دول "دَوْشُونَا" بما يسمى "في ظلال القرآن", وأنا أتحدى أي واحد يريني أين "التفسير" في كتاب قطب هذا؟
¥