أولاً: قول الزمخشري: " باب الوعد والوعيد: إن أطاع المكلف أو عصى استحق المدح والثواب، أو الذم والعقاب، إن لم يحبط أحد المستحقَّين بالآخر أو بالندم، ويَسقُطُ العقابُ عقلا بالعفو أو الشفاعة، إلا أنّ السمع مانِعٌ، فالكبيرة تحبط الطاعات، ومن مات من أهل الصلاة مُصِرًّا عليها خُلِّدَ في النار ".
أقول: المانع السمعي هذا إنما هو عندهم آيات الوعيد التي يستدلون بها على تكفير مرتكبي الكبائر، والوعيد عندهم نافذ، وهذا المانع السمعي (أعني نصوص الوعيد) غير موجود قبل ورود السمع، إذ لو كان موجوداً لم يكن سمعياً.
ومع سقوط المانع فالعفو جائز.
فإذا أضفنا إلى ذلك قول الزمخشري: " ?وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ ?: وما صحّ منَّا صحةً تدعو إليها الحكمة أن نعذِّب قوماً إلا بعد أن ? نَبْعَثَ ? إليهم ? رَسُولًا ? فتلزَمُهُم الحجةُ ".
علمنا أن عدم ملائمة ذلك لحكمة الله تعالى مرجح ترجح به العفو عمن لم يأته رسول، فالعفو عنده إذا واقع.
ولهذا نقل ابن القيم عن المعتزلة قولهم: " نحن نمنع العفو بعدَ البعثة إذا أوعد الربُّ على الفعلِ، لأنَّ العذابَ قد صارَ واجباً بخبره ومُستَحَقَّاً بارتكاب القبيح، وهو سُبحانه لم يحصل منهُ إيعادٌ قبل البعثة فلا يقبُحُ العفو، لأنه لا يستلزم خُلفاً في الخبر وإنما غايتُه تركُ حقٍّ له قد وجبَ قبل البعثَةِ ".
ولعل هذا التونسي المتعصب ينظر في كلام العضد الإيجي الذي سأنقله، ليعلم أن احتجاج الأشعرية بهذه الآية على المعتزلة إنما يصح إذا كان العفو عندهم ممتنعاً، وعلى هذا أقام العضد دليله.
قال العَضُد في المواقف مُحتجَّاً عليهم – وأمزِجُ كلامَه بكلام شارحه -: " نفى الله سُبحَانَهُ وتعالى التَّعذيبَ (مُطلقاً دُنيويَّاً كان أو أُخرَويَّاً) قبلَ البعثةِ، وهو من لوازمِ الوُجُوب (بشرطِ ترك الواجب) عندَهُم، (إذ لا يجوِّزُون العفو)، فينتفي الوُجُوبُ قبلَ البعثة (لانتفاء لازمه)، وهو ينفي كونه بالعقل (إذ لو كان الوجوبُ بالعقل لكان ثابتاً معه قبلَ بعثة الرسل، ومحصولُه: أنه لو كان وجوب عقلي لثبت قبلَ البعثة، ولا شُبهة في أن العقلاء كانوا يتركون الواجبات حينئذٍ فيلزم أن يكونُوا معذبين قبلَها، وهو باطل بالآية) ".
فانظر كيف احتج العضد على المعتزلة لما قرر أنهم لا يجوزون العفو، وإذا علمنا أن هذا النقل عن المعتزلة - قاطبة - غلط علمنا أن احتجاجه بالآية عليهم ساقط.
على أن بعض الأشعرية كمل الاستدلال بالآية على تقدير جواز العفو لكن لم يقبل كلامه انظر: روح المعاني (8/ 36).
ثانياً: قول التونسي: " وقد ترجح عند الزمخشري وقوع العذاب بالإنسان ـ الذي مات ولم يوحد الله ولم يعرف صفاته ـ قبل بعثة الرسول بناء على أن الله تعالى نصب الأدلة لكل من له عقل على وجوده تعالى وصفاته ".
أقول: هذا المرجح موجود قبل بعثة الرسول وبعد بعثة الرسول، وما دام كذلك فلا يصح أن يقال: إن العفو جائز، بل يجب أن يقال: هو ممتنع، وما دام العفو عندهم جائزاً علمنا أن هذا ليس هو المرجح الذي ترجح به وقوع التعذيب على العفو.
والمرجح لعدم العفو الذي نص عليه الزمخشري هو المرجح السمعي: " إلا أنّ السمع مانِعٌ ".
وهذا المرجح كما تقدم معدوم قبل ورود السمع.
ثم قال: " وهذا ما يصرح به الزمخشري بقوله إن الحجة لازمة للإنسان قبل بعثة الأنبياء، وهذا تفسير ابن عاشور لكلام الزمخشري بأن أصل المؤاخذة حاصل قبل بعثة الرسول ".
أقول: الذي صرح به الزمخشري أن المرجح للتعذيب هو السمع، أي: نصوص الوعيد النافذة، أما الرجوع إلى كون الحجة لازمة أو غير لازمة، فهو من تخليط التونسي بعد أن ضاق عقله بهذه المسائل الصعبة عليه.
ثالثاً: قال التونسي: " وإذا كان صاحب الكبيرة عند الزمخشري الذي مات عليها بلا توبة مخلدا في النار أبدا سرمدا وإن كان مؤمنا، فكيف بمن لم يعرف الله بعقله وقد لزمته الحجة بالدلائل العقلية قبل مجيء الرسل؟؟ ".
أقول الفرق بين الحالتين أن الأول جاء الوعيد بحقه، ونفوذ الوعيد عن المعتزلة أصل أصيل، أما الحالة الثانية فلم يأت بحق تارك المعرفة والنظر وعيد، والعفو عنده جائز، ورجحته الحكمة والسمع فصار واجباً واقعاً بلا ريب.
ـ[أبو عبيدة الهاني]ــــــــ[08 Feb 2010, 10:53 م]ـ
أقول: المانع السمعي هذا إنما هو عندهم آيات الوعيد التي يستدلون بها على تكفير مرتكبي الكبائر، والوعيد عندهم نافذ، وهذا المانع السمعي (أعني نصوص الوعيد) غير موجود قبل ورود السمع، إذ لو كان موجوداً لم يكن سمعياً.
ومع سقوط المانع فالعفو جائز.
قد بينت لك أن الدلائل العقلية على وجود الله قبل بعثة الرسل أمر، ونصوص الوعيد بعد بعثة الرسل أمر آخر، والدلائل العقلية قبل بعثة الرسل كافية لإلزام الإنسان الحجة، فإذا لم يعرف الله قبل إرسال الرسل ومات على ذلك خلد في النار بعدل الله عند الزمخشري. فالادلة العقلية لم تسقط حتى يجوز العفو.
قول الزمخشري: " ?وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ ?: وما صحّ منَّا صحةً تدعو إليها الحكمة أن نعذِّب قوماً إلا بعد أن ? نَبْعَثَ ? إليهم ? رَسُولًا ? فتلزَمُهُم الحجةُ "
قول الزمخشري ظاهر للعلماء، فهو يقصد أنه ما صح من الله صحة تدعو إليها الحكمة أن يعذب قوما إلا بعد بعث الرسول وإن صح منا عدلا، فمجرد العدل يصحح وقوع العذاب بمن مات ولم يعرف الله بالأدلة العقلية عند الزمخشري الذي هو أصلا من العدلية، وما لقبوا عدلية إلا لهذه المسائل التي يدعونها.
فالعفو عنده إذا واقع.
هذه نتيجة من كوكب آخر، لا علاقة لها بالفهم والفقه لكلام العلماء. وهي مضحكة على من ينسبها للمعتزلة العدلية.
فالحاصل أن تعذيب الإنسان الذي لم يعرف الله مع نصب الأدلة العقلية ومات على ذلك واجب عند الزمخشري بالعدل الإلهي لأنه مكنه من الأدلة العقلية ومكنه من النظر فيها، وهذا العذاب واجب بحكمة الله بعد بعث الرسل، فلا مجال للعفو أو عن وقوعه لمن مات قبل بعثة الرسل ولم يعرف الله.
¥