فقوله: "قاف" أي وقفت. وقول الآخر:
بالخير خيرات وإن شراً فا ولا أريد الشر إلا أن تا
يعني: وإن شراً فشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء. فاكتفى بالفاء والتاء عن بقية الكلمتين.
قال القرطبي: وفي الحديث "من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة" الحديث، قال سفيان: هو أن يقول في أقتل: أ ق؛ إلى غير ما ذكرنا من الأقوال في فواتح السور، وهي نحو ثلاثين قولاً.
أما القول الذي يدل استقراء القرآن على رجحانه فهو: أن الحروف المقطعة ذكرت في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها. وحكى هذا القول الرازي في تفسيره عن المبرد، وجمع من المحققين، وحكاه القرطبي عن الفراء وقطرب، ونصره الزمخشري في الكشاف.
قال ابن كثير: وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية، وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي، وحكاه لي عن ابن تيمية.
ووجه شهادة استقراء القرآن لهذا القول: أن السور التي افتتحت بالحروف المقطعة يذكر فيها دائماً عقب الحروف المقطعة الانتصار للقرآن وبيان إعجازه، وأنه الحق الذي لا شك فيه.
وذكر ذلك بعدها دائماً دليل استقرائي على أن الحروف المقطعة قصد بها إظهار إعجاز القرآن، وأنه حق.
قال تعالى في "البقرة": {الم} [2/ 1]، واتبع ذلك بقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ}، وقال في "آل عمران": {الم} [3/ 1]، واتبع ذلك بقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} الآية [3/ 2،3]، وقال في "الأعراف": {المص} [7/ 1]، ثم قال: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الآية [7/ 2]. وقال في سورة "يونس": {الر} [10/ 1]، ثم قال: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [10/ 1]، وقال في هذه السورة الكريمة التي نحن بصددها، أعني سورة "هود" {الر} [11/ 1]، ثم قال: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [11/ 1]، وقال في "يوسف": {الر} [12/ 1]، ثم قال: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} الآية [12/ 1، 2]، وقال في "الرعد": {المر} [13/ 1]، ثم قال: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} [13/ 1]، وقال في "سورة إبراهيم": {الر} [14/ 1]، ثم قال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} الآية [14/ 1]. وقال في "الحجر": {الر} [15/ 1]، ثم قال: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [15/ 1]. وقال في "سورة طه": {طه} [20/ 1]، ثم قال: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [20/ 2]، وقال في "الشعراء": {طسم} [26/ 1]، ثم قال: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} الآية [26/ 2، 3]. وقال في "النمل": {طس} [27/ 1]، ثم قال: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [27/ 1]، وقال في "القصص": {طسم} [28/ 1]، ثم قال: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} الآية [28/ 2، 3]. وقال في "لقمان": {الم} [31/ 1]، ثم قال: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [31/ 2]، {هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [31/ 3]، وقال في
"السجدة": {الم} [32/ 1]، ثم قال: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [32/ 2]. وقال في "يس": {يس} [36/ 1]، ثم قال: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} الآية [36/ 2]، وقال في ص: {ص} [38/ 1]، ثم قال: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْر} الآية [38/ 1]، وقال في "سورة المؤمن": {حم} [40/ 1]، ثم قال: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} الآية [40/ 2]. وقال في "فصلت": {حم} [41/ 1]، ثم قال: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} الآية [41/ 2، 3]، وقال في " الشورى": {حم عسق} [42/ 1، 2]، ثم قال: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} الآية [42/ 3]، وقال في "الزخرف": {حم} [43/ 1]، ثم قال: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} الآية [43/ 2، 3]. وقال في "الدخان": {حم} [44/ 1]، ثم قال {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} الآية" 44/ 2، 3]. وقال في "لجاثية": {حم} [45/ 1]، ثم قال: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [45/ 2، 3]، وقال في "الأحقاف": {حم} [46/ 1]، ثم قال: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} الاية [46/ 2، 3]. وقال في "سورة ق": {ق} [50/ 1]، ثم قال: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} الآية [50/ 1].
وقد قدمنا كلام الأصوليين في الاحتجاج بالاستقراء بما أغنى عن إعادته هنا.
وإنما أخرنا الكلام على الحروف المقطعة مع أنه مرت سور مفتتحة بالحروف المقطعة "كالبقرة"، و"آل عمران"، و"الأعراف"، و"يونس"؛ لأن الحروف المقطعة في القرآن المكي غالباً، و"البقرة"، و"آل عمران" مدنيتان والغالب له الحكم. واخترنا لبيان ذلك سورة "هود"؛ لأن دلالتها على المعنى المقصود في غاية الظهور والإيضاح؛ لأن قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [11/ 1]، بعد قوله {الر} [11/ 1]، واضح جداً فيما ذكرنا، والعلم عند الله تعالى."