رَجُلًا حَقِيقَةً لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَوَّلًا فِي صُورَتَيْ رَجُلَيْنِ نَافَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا}.
وَيُجَابُ عَنْ الْأَوَّلِ بِمَا مَرَّ أَنَّ الْمَحْذُورَ تَعْلِيمُهُ لِلْعَمَلِ بِهِ لَا لِبَيَانِ فَسَادِهِ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُرَادَ لَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا رَسُولًا دَاعِيًا إلَى النَّاسِ لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا حَتَّى يُمْكِنَهُمْ الْأَخْذُ عَنْهُ وَالتَّلَقِّي مِنْهُ، وَمَا هُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا مَحْذُورَ فِي كَوْنِ الْمَلَكِ عَلَى غَيْرِ صُورَةِ الرَّجُلِ.
وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّا نَخْتَارُ أَنَّهُمَا لَيْسَا فِي صُورَتَيْ رَجُلَيْنِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ ذَلِكَ وَتِلْكَ الْآيَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَعَلَى أَنَّهُمَا فِي صُورَةِ رَجُلٍ فَإِنَّمَا يَجُوزُ الْحُكْمُ عَلَى كُلِّ ذَاتٍ بِأَنَّهُمَا مَلَكٌ فِي زَمَنٍ يَجُوزُ فِيهِ إنْزَالُ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا أَنَّ صُورَةَ دِحْيَةَ مَنْ كَانَ يَرَاهَا بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّ جِبْرِيلَ يَنْزِلُ فِيهَا لَا يَقْطَعُ بِأَنَّهَا صُورَةُ دِحْيَةَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا جِبْرِيلُ، وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ تِلْكَ الْحُجَجِ بِمَا لَا يُجْدِي بَلْ بِمَا فِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا لِهَذَيْنِ الْمَلَكَيْنِ قِصَّةً عَظِيمَةً طَوِيلَةً، حَاصِلُهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا اعْتَرَضُوا بِقَوْلِهِمْ {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} وَمَدَحُوا أَنْفُسَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِك وَنُقَدِّسُ لَك} أَرَاهُمْ اللَّهُ - تَعَالَى - مَا يَدْفَعُ دَعْوَاهُمْ، فَرَكَّبَ فِي هَارُوتَ وَمَارُوتَ مِنْهُمْ شَهْوَةً، وَأَنْزَلَهُمَا حَاكِمَيْنِ فِي الْأَرْضِ فَافْتُتِنَا بِالزَّهْرَةِ مُثِّلَتْ لَهُمَا مِنْ أَجْمَلِ النِّسَاءِ فَلَمَّا وَقَعَا بِهَا خُيِّرَا بَيْنَ عَذَابَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا فَهُمَا يُعَذَّبَانِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَنَازَعَ جَمَاعَةٌ فِي أَصْلِ ثُبُوتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا لِوُرُودِ الْحَدِيثِ بَلْ صِحَّتُهُ بِهَا ......
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْحِكْمَةُ فِي إنْزَالِهِمَا أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ السَّحَرَةَ كَثُرَتْ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ وَاسْتَنْبَطَتْ أَنْوَاعًا عَجِيبَةً غَرِيبَةً فِي النُّبُوَّةِ، وَكَانُوا يَدْعُونَهَا وَيَتَّحِدُونَ النَّاسَ بِهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْمَلَكَيْنِ؛ لِيُعَلِّمَا النَّاسَ السِّحْرَ حَتَّى يَتَمَكَّنُوا مِنْ مُعَارَضَةِ أُولَئِكَ السَّحَرَةِ الْمُدَّعِينَ لِلنُّبُوَّةِ كَذِبًا وَهَذَا غَرَضٌ ظَاهِرٌ.
ثَانِيهَا: أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْمُعْجِزَ مُخَالِفٌ لِلسِّحْرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ مَاهِيَّتِهِمَا وَالنَّاسُ كَانُوا جَاهِلِينَ مَاهِيَّةَ السِّحْرِ فَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ السِّحْرِ، فَبَعَثَ اللَّهُ هَذَيْنِ الْمَلَكَيْنِ لِتَعْرِيفِ مَاهِيَّةِ السِّحْرِ لِأَجْلِ هَذَا الْغَرَضِ.
ثَالِثُهَا: لَا يَمْتَنِعُ أَنَّ السِّحْرَ الَّذِي يُوقِعُ الْفُرْقَةَ بَيْنَ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَالْأُلْفَةَ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَانَ مُبَاحًا عِنْدَهُمْ أَوْ مَنْدُوبًا فَبَعَثَهُمَا اللَّهُ لِتَعْلِيمِهِ لِهَذَا الْغَرَضِ، فَتَعَلَّمَ الْقَوْمُ ذَلِكَ مِنْهُمَا وَاسْتَعْمَلُوهُ فِي الشَّرِّ وَإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَالْأُلْفَةِ بَيْنَ أَعْدَاءِ اللَّهِ.
رَابِعُهَا: تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِكُلِّ شَيْءٍ حَسَنٍ، وَلَمَّا كَانَ السِّحْرُ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا مُتَصَوَّرًا وَإِلَّا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ.
¥