تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[من أسرار الإعجاز البياني في القرآن- سر الابتداء بالنكرة]

ـ[محمد إسماعيل]ــــــــ[06 Apr 2004, 02:02 ص]ـ

بسم الله الرحمن الرحيم

من أسرار الإعجاز البياني في القرآن

سر الابتداء بالنكرة وسر العدول بها من الفتح إلى الضم

قال الله تعالى في حق أهل الجنة: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب* سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} [الرعد:23 - 24] 00 وقال سبحانه في صفة عباده: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا} [الفرقان:63] 0

ما سر ابتداء الملائكة- عليهم السلام- تحيتهم لأهل الجنة بقولهم: (سلامٌ)، بالتنكير؟

وما الفرق بين تسليمهم، بالضم، وتسليم عباد الرحمن، بالفتح، في المعنى؟

وفي الإجابة عن ذلك نقول بعون الله وتعليمه:

حدُّ المبتدأ- في اللغة- أن يكون معرفة0 أو: نكرة مفيدة؛ وإلاَّ، فلا فائدة في الإخبار عنه. وتفيد النكرة في مواضع كثيرة؛ كأن تكون منعوتة، أو مستفهمًا عنها، أو منفية. فإن لم تكن كذلك فلا يجوز الإخبار عنها إلا أن يكون الخبر شبه جملة مقدَّم عليها؛ نحو قولنا: في العلم نورٌ، وفوق كل ذي علم عليمٌ.

وفي العربية أبواب رفعت فيها النكرة بالابتداء سوى ما ذكرنا؛ وذلك لمعان مازجت الكلام، وأخرجته عن أن يكون خبرًا محضًا0 ومن ذلك ما دخله معنى الدعاء، من المصادر، والأحداث؛ نحو قولك: سلامٌ عليكم0 فـ (سلام) مرتفع على الابتداء، وارتفاعه من وجهين:

- أحدهما أنك لما كنت داعيًا، وكان الاسم المبتدأ النكرة هو المطلوب بالدعاء، صار كالمفعول، ووقع موقعه؛ فكأنك قلت: أسال الله تعالى سلامًا عليك، ولكنك لم تنصبه؛ كما نصبت (سقيًا)، في قولك:

- سقيًا لكم؛ لأنك تريد أن تشوب الدعاء بخبر عن نفسك؛ وكأنك تريد أن تقول: سلامٌ مني عليكم. فصار السلام في حكم المنعوت بقولك: (مني)، فقويَ الرفع فيه على الابتداء. وهذا هو الوجه الثاني من الوجهين اللذين حسَّنا الابتداء بالنكرة، والتقديم لها.

ألا ترى أن كل من يقول: سلامٌ عليكم؛ إنما يريد أن يشعر المخاطب أنه مسلِّم، ومحيٍّ؟

فالسلام صادرٌ منه؛ لأنه في معنى التحيَّة.

وليس كذلك: سقيّا لكم؛ لأن المتكلم ليس بساقٍ، وإنما هو طالبٌ السقيَ من الله تعالى للمخاطب؛ فهو مفعول0 ولو كان السلام مقتصرًا على معنى الدعاء فقط، لما جاز فيه غير النصب، ولكان قولنا: سلامًا عليكم؛ كقولنا: سقيًا لكم، في دلالة كل منهما على معنى الدعاء.

فإذا تأملت ما ذكرناه، تبين لك أن المراد من قوله تعالى: {سلامٌ عليكم بما صبرتم} هو الدعاء لهم بالسلامة، والعافية، مع السلام عليهم الذي هو عبارة عن التحيَّة .. وأن المراد من قوله تعالى: {قالوا سلامًا} هو الدعاء لهم بالسلامة، فقط.

تأمل بعد ذلك كيف جاء سلام الملائكة منصوبًا، وجاء في مقابله سلام إبراهيم- عليه السلام- عليهم مرفوعًا، في قول الله تعالى: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام} [الذاريات:24 - 25].

قال الزمخشري في كشافه: ” سلامًا- مصدر سادٌّ مَسدَّ الفعل، مستغنى به عنه، وأصله: نسلم عليك سلامًا0 وأما سلامٌ فمعدول به إلى الرفع على الابتداء، وخبره محذوف، معناه: عليكم سلامٌ، للدلالة على ثبات السلام؛ كأنه قصد أن يحييهم بأحسن مما حبوه به، أخذًا بأدب الله تعالى .. وهذا- أيضًا- من إكرامه لهم“.

وقال الشيخ السهيليُّ:” نصب الأول؛ لأنه لم يقصد الحكاية، ولكنه جعله قولاً حسنًا، وسمَّاه سلامًا؛ لأنه يؤدي معنى السلام، في رفع الوحشة، ووقوع الأنس. وحكي لنا عن إبراهيم- عليه السلام- قوله، فرفع بالابتداء، وحصل من الفرق بين الكلامين- في حكاية هذا ورفعه، ونصب ذلك- إشارة لطيفة، وفائدة شريفة؛ وهو أن السلام من دين الإسلام، والإسلام ملة إبراهيم- عليه السلام- وقد أمرنا بالاتباع، والاقتداء به؛ فحُكيَ لنا قوله، ولم يحك لنا قول أضيافه؛ إذ لا فائدة في تعريف كيفيَّته، وإنما الفائدة في تبيين قول إبراهيم، وكيفيَّة تحيَّته، ليقع الاقتداء به“.

فإذا عرفت ذلك أدركت سر البيان في تسليم الله تعالى على أنبيائه- عليهم السلام- برفع السلام، وتنكيره. ومن ذلك قوله تعالى في التسليم على نوح- عليه السلام-: {سلامٌ على نوح في العالمين} [الصافات:79]. فهذا سلام من الله تعالى على نبيه نوح- عليه السلام- تضمن معنيين: أحدهما: التحيَّة0 والثاني: الدعاء له بالسلامة، وثبوتهما في العالمين جميعًا0 بمعنى: أن لا يخلو أحد منهم منها؛ كأنه قيل: ثبَّت الله تعالى التسليم على نوح- عليه السلام- وأدامه في الملائكة، والثقلين، يسلمون عليه من آخرهم.

تأمل بعد ذلك كله قول الله تعالى في جزاء المؤمنين الصابرين: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلامًا} [الفرقان:75]، لعلك تعرف الفرق بين السلام الذي يراد به التحية، والسلام الذي يراد به مجرد الدعاء بالسلامة.

والسلام عليك أخي القارىء، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورحمة الله، وبركاته، سلامًا يتجدَّدُ في العالمين تجدُّدَ الليل، والنهار، والحمد لله رب العالمين!

ـــــــــــــــ

انتظر أخي القارىء مقالنا التالي عن سر البيان في تعريف لفظ السلام، وتنكيره0

محمد إسماعيل عتوك.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير