وفي قوله تعالى في الزرع: {لجعلناه حطامًا}، ثم في قوله تعالى في الماء: {جعلناه أجاجًا} إعجاز آخر من إعجاز القرآن؛ وهو إدخال اللام في الأول، ونزعها منه في الثاني؛ فأفاد دخولها في الأول تأخير وقوع العقوبة- وهي جعل الزرع حطامًا- لعقوبة أشدَّ منها؛ كما في قوله تعالى: {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارًا فجعلناها حصيدًا كأن لم تغن بالأمس} [يونس:24] 0
وكثيرًا ما تدخل هذه اللام على جواب (لو)، فتدل على المماطلة في جعله واقعًا؛ كما يشير إليه قوله تعالى في صفة الكافرين: {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين} -[الأنفال:31] 0 والزركشيُّ يسمي هذه اللام: (مسبوقة) 0 وينبغي أن تسمَّى: (لام التسويف)؛ لأنها تفيد ما يفيده كلٌّ من (السين، وسوف)، من دلالة على التسويف تارة، والمماطلة تارة أخرى في إيقاع الفعل0
أما نزعها من الثاني فيفيد التعجيل بوقوع العقوبة فورًا- وهي جعل الماء أجاجًا- أي: جعله كذلك لوقته دون تأخير0 وكلا الفعلين مرتبط بمشيئة الله تعالى00 يدلك على ذلك أن قوله تعالى: {لو نشاء جعلناه أجاجًا} قيل على طريقة الإخبار؛ لأن جعل الماء المشروب المنزل من المزن أجاجًا لوقته- أي: شديد الملوحة، والمرارة، والحرارة- لم يشاهد في الواقع؛ لأنه لم يقع، بخلاف جعل الزرع حطامًا- أي: يابسًا متكسرًا- فإنه كثيرًا ما وقع كونه حطامًا، بعد أن كان أخضرَ يانعًا0 وهذا ما عبَّر عنه تعالى بقوله: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعًا مختلفًا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرًّا ثم يجعله حطامًا إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب} [الزمر:21] 00 فلو قيل: جعلناه حطامًا؛ كما قيل: جعلناه أجاجًا، تُوُهِّم منه الإخبار0
ومما يدل على ذلك أيضًا أن دخول اللام على جواب (لو)، لا يكون إلا في الأفعال، التي لا يُتخيَّل وقوعها؛ ولهذا كان جعل الماء المنزل من المزن أجاجًا لوقته، قبل أن يصل إلى الأرض، ويستقر في أعماقها أدلَّ على قدرة الله تعالى، من جعل الزرع حطامًا، وإن كان الكل أمام قدرة الله سواء0 ولهذا عقَّب سبحانه على الأول بقوله: {فظلتم تفكهون}، وعقَّب على الثاني بقوله: {فلولا تشكرون} 0 فتأمل هذه الأسرار البديعة، التي لا تجدها إلا في البيان الأعلى!!
الجمعة، 26 آذار، 2004 – حلب- سورية - محمد إسماعيل عتوك
م- ع
ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[26 Mar 2004, 05:27 م]ـ
جزاك الله خيراً أخي الكريم محمد على هذا التأمل الدقيق، والاستنباط الموفق. وكأني بك من أهل العربية الذين يحسنون الغوص على أسرارها، والتلذذ بدقائقها، وقليل من يحسن ذلك في زمن العجمة هذا، ورحم الله أبا عمرو بن العلاء عندما سئل سؤالاً لغوياً فقال - تواضعاً منه: قد ذهب الذين يحسنون هذا! فماذا نقول نحن؟
أخي الحبيب: قبل مدة ليست بالقصيرة، نقلت بعضاً من اللمسات البيانية في نصوص من التنزيل عن الدكتور الجليل فاضل السامرائي حفظه الله، في كتاب له بهذا العنوان وذلك في مشاركة بعنوان:
لمسات بيانية في نصوص من التنزيل ( http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?s=&threadid=374)
فلعلك تتحفنا بتعليقك على ما أشار إليه الدكتور فاضل من الأسرار البيانية، أسأل الله لك التوفيق والسداد. آمين
ـ[محمد إسماعيل]ــــــــ[27 Mar 2004, 12:25 ص]ـ
أخي الفاضل عبد الرحمن الشهري!
ماذا تقول بعد أن قرأت مقالي هذا، و أطريتني بهذا الثناء الحسن، إذا علمت أنني كتبت هذا المقال ردًّا على الدكتور فاضل السامرائي، وكان قد سئل عن الحكمة، أو السر من دخول هذه اللام في آية المطعوم، ونزعها منه في آية المشروب، فأجاب الجواب، الذي لا يملك غيره هو، وجمهور النحاة والمفسرين؛ وهو قولهم بأن اللام زائدة دخلت لتأكيد الجواب في آية الزرع، ولم تدخل في آية الماء؛ لأن الجواب فيها لا يحتاج إلى تأكيد، خلافًا للأول0 بدليل أن الإنسان في عصرنا هذا استطاع أن يحول كثيرًا من مياه البحار المالحة إلى مياه حلوة0 أما أن يحول الزرع إلى حطام فهذا ما لم يقدر عليه00 هذا ما أجاب به بتصرف0 فما رأيكم؟ ولكم الشكر من قبل ومن بعد0
الجمعة، 26 آذار، 2004 محمد إسماعيل عتوك
ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[30 Mar 2004, 06:21 م]ـ
ولكم كذلك أستاذي الكريم كل الشكر والتقدير، ولا أقول إلا فتح الله عليكم، وزادكم من فضله، ورحم الله أبا تمام عندما قال:
لا زلتَ من شكري في حُلَّةٍ = لا بسُها ذو سَلَبٍ فَاخرِ
يقولُ من تَقرعُ أسماعَه: = كَمْ ترك الأول للآخرِ!
ـ[محمد إسماعيل]ــــــــ[01 Apr 2004, 06:43 م]ـ
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ==== يدي ولساني والضمير المحجبا