تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفرق ثالث: وهو أن الأرض دار الدنيا التي هي بالإضافة إلى الآخرة؛ كما يدخل الإنسان أصبعه في اليمِّ، فما تعلق بها هو مثال الدنيا من الآخرة00 والله تعالى لم يذكر الدنيا إلا مقللاً لشأنها0 وأما السموات فليست من الدنيا- على أحد القولين فيها- وإنها مقرُّ ملائكة الرب تعالى، ومحل دار جزائه، ومهبط وحيه0 ولهذا ناسب التعبير عنها بلفظ الجمع؛ لأن المقصود ذواتها، لا مجرد العلو والفوق00 أما إذا أريد الوصف الشامل للسموات- وهو معنى العلو والفوق- أفرد لفظها بحسب ما يتصل به من الكلام والسياق (1) 0

تأمل بعد ذلك كيف جاء لفظ السماء مجموعًا في قوله تعالى: {وهو الله في السموات والأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون} [الأنعام:3] 0 والسر في ذلك يرجع إلى أن المراد من الآية: هو الله المعبود في كل واحدة من السموات0 ففي كل واحدة من هذا الجنس هو المألوه والمعبود00 فذكر الجمع- هنا- أبلغ، وأحسن من الاقتصار على لفظ الجنس الواحد0

وتأمل كيف جاء لفظها مجموعًا في قوله تعالى: {تسبح له السموات السبع} [الإسراء:44] 0 والسر في ذلك يرجع إلى أن المراد من الآية: الإخبار بأنها تسبح له سبحانه، بذواتها وأنفسها، على اختلاف عددها0 وأكد هذا المعنى بوصفها بالعدد، ولم يقتصر على السموات0

ونحو ذلك قوله تعالى: {أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقًا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون} [الأنبياء:30] 0 فالمراد من الآية الدلالة على إلاهيته، ووحدانيته سبحانه، وأنه لا مبدع، ولا خالق سواه0 ولهذا كان لفظ السموات مجموعًا أبلغ من مجيئه مفردّا0

ثم تأمل كيف جاء لفظ السماء مفردًا في قوله تعالى: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور* أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبًا فستعلمون كيف نذير} [الملك:16 - 17] 0 والسر في ذلك يرجع إلى أن المراد من الآية: الوصف الشامل، والفوق المطلق للسماء، ولم يُرَد سماء معينة مخصوصة0

أما قوله تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون} [الذاريات:22]، فجاء لفظ السماء فيه مفردًا؛ لأن الرزق هو المطر، والذي وعدنا به هو الجنة، وكلاهما في هذه الجهة، لا في كل واحدة من السموات، فكان لفظ الإفراد أليق بالمقام00 وجاء لفظ السماء والأرض مفردين في قوله تعالى: {فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون} [الذاريات:23]، إرادة لهذين الجنسين0 أي: رب كل ما علا، وكل ما سفل0 فلما كان المراد عموم ربوبيته تعالى، أتى بالاسم الشامل لكل ما يسمَّى سماء، وكل ما يسمَّى أرضًا؛ وهو أمر حقيقي لا يتبدل، ولا يتغير، وإن تبدلت عين السماء والأرض0

فتأمل هذه الأسرار المعجزة، التي ينطق بها البيان الأعلى في كل لفظ من ألفاظه، مما يشهد أنه تنزيل من حكيم حميد0

ــــــــــــــــــ

(1) - هذه الفروق مع الشواهد ذكرها ابن قيِّم الجوزية في كتابه البديع (بدائع الفوائد) 0 وقد نقلتها عنه بتصرف0

محمد إ سماعيل عتوك

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير