قال الشاطبي: " اعلم أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولاً، والذي نزل بها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم تبعها أشياء بالمدينة، كملت بها تلك القواعد التي وضع أصلها بمكة، وكان أولها الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، ثم تبعه ما هو من الأصول العامة؛ كالصلاة، وإنفاق المال، وغير ذلك ... وإنما كانت الجزئيات المشروعات بمكة قليلة، والأصول الكلية كانت في النزول والتشريع أكثر. ثم لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واتسعت خطة الإسلام، كملت هنالك الأصول الكلية على تدريج ".
والمقصود بـ (كليات القرآن) تلك الآيات التي تتحدث عن أمور كلية، تتعلق بجانب التصور والاعتقاد والأخلاق والسلوك والمقاصد. أو بعبارة أخرى: هي المعاني والمبادئ والقواعد العامة المجردة، التي تشكل أساساً ومنبعاً لما ينبثق عنها، وينبني عليها من تشريعات تفصيلية، وتكاليف عملية، وأحكام وضوابط تطبيقية.
وقد جاءت (كليات القرآن) كي تحدد القيم والمثل، وتنشئ تصوراً عاماً للكون والحياة، وتبين الغايات والمقاصد العامة التي يسعى التشريع لتحقيقها في حياة الناس، وفي الوقت نفسه، وضحت تلك الآيات أمهات المفاسد، وأصول الانحرافات التي تهدد حياة الإنسان، من عقدية وفكرية ونفسية وسلوكية ...
وعلى العموم يمكن القول: إن (الكليات القرآنية) قد تكفلت بإرساء الأساس النظري والإطار المرجعي، الذي ينبثق منه التشريع الإسلامي، وأن الشريعة الإسلامية قد تفصَّلت فروعها بعدما تأصلت كلياتها.
هذا، وقد عرض القرآن الكريم هذه الكليات من خلال أساليب متعددة ومتنوعة؛ فجاء كثير من هذه الكليات على لسان الرسل والأنبياء، من ذلك مثلاً ما جاء على لسان النبي صالح عليه السلام: {ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون} (الشعراء:151 - 152)؛ أو حكاية عما جاء في كتبهم وشرائعهم؛ ومن ذلك قوله سبحانه: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} (الحديد:25).
ثم إن هذه الكليات القرآنية منها ما جاء منصوصاً عليها بعبارات جامعة في آية، كقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (النجم:39)، ومنها ما جاء في جزء من آية، وهذا كثير، كقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام:164)، ومنها ما جاء ضمن مجموعة من الآيات المتضمنة لعدة معان وأحكام كلية، كرفع الحرج عن الناس، فهذه الكلية ثابتة بعدة آيات، كقوله تعالى: {يريد الله أن يخفف عنكم} (النساء:28)، وقوله سبحانه: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (البقرة:185).
وكثير من الكليات القرآنية جاء في صيغ وصفية لأحوال ونماذج من الناس؛ إما بذكر صفاتهم المحمودة والممدوحة؛ لأجل الاتباع والاقتداء؛ وإما بذكر صفاتهم المذمومة والمستنكرة؛ لأجل الاجتناب والانتهاء، كقوله تعالى: {الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق} (الرعد:20)، وقوله سبحانه: {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون} (الرعد:37).
وقد تأتي الكليات القرآنية بصيغ خبرية تقريرية، على شكل مبادئ وقواعد، كما في قوله سبحانه: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها} (البقرة:286)، وقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (الحج:78).
وتأتي الكليات أحياناً بصيغتي الأمر والنهي، كقوله سبحانه: {وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} (الحجرات:9)، وقوله تعالى: {ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (الأنعام:141).
وقد تأتي الكليات القرآنية مضمَّنة في الأدعية المطلوبة والمشروعة، كقوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} (الفاتحة:6)، وهو دعاء يعني: الطلب الدائم، والسعي الدائب لسلوك طريق الهداية والاستقامة؛ وقوله سبحانه: {لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين} (يونس:85)، وهذا دعاء إلى الله وتوجه إليه ألا يجعل المؤمن موضع محنة وفتنة وبلاء.
¥