تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الاستخدام الصوتي المخصوص بسياقٍ معين فمن ذاك التفريق القرآني بين (الصبح، والفجر) حيث يُلاحظ أنّ كل استخدام لمفردة الصبح واشتقاقاتها لا يخرج عن سياق العذاب والإهلاك قال تعالى: (ولقد صبحهم بكرةً عذاب مستقر) (القمر: 38) وقال تعالى: ( ... وهم نائمون فأصبحت كالصريم) (القلم: 20) و (إنّ موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) (هود: 81) (64) وعلى العكس من لفظة (الفجر) التي ما استخدمت إلا في سياقٍ خالٍ من العذاب إن لم يكن أقرب إلى الرقة قال تعالى: (والفجر وليالٍ عشر والشفع والوتر ... هل في ذلك قسمٌ لذي حجر) (الفجر: 1 - 6) وقال تعالى: (سلامٌ هي حتى مطلع الفجر) (القدر: 5) ... أو في سياقاتٍ تتعلق بالأحكام يستثنى من هذا قوله تعالى: (فالق الإصباح ... ) (الإنعام: 96) وإنما جيء به للحاجة إلى جمعٍ ولا جمع للفجر لمناسبة (الإصباح للإنفلاق) من حيث الجرس، والسر في هذا الاستخدام الخاص السابق مراعاة جرس كل من اللفظتين للسياق الذي استخدم فيه لأن (الصاد) صوت قوي لاجتماع الصفير والإطباق والاستعلاء (مفخم) (65) والباء صوت مجهور شديد متقلقل انفجاري (66) فناسب لفظهما (الصبح) معرض الإهلاك والعذاب، وسيختلف السياق تماماً فيما لو استبدلت إحداهما بالأخرى.غير أن التعبير القرآني خالف هذا الاستخدام في قوله تعالى (والصبح إذا تنفس) (التكوير: 18) فعدل في هذا الموضع عن استخدام (الفجر) لتحقيق التناسق الصوتي في نظم السياق الذي جاءت فيه هذه الآية (فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس ... ) (التكوير 15 - 18) فالألفاظ المختارة كلها تحتوي صوت (السين) الصفيري فجيء بالصاد الصفيري ليناسب التكرار فلو كان الاختيار واقعاً على (الفجر) لأصبح الجرس متعثراً فيه نبوة يوجدها صوت (الجيم) الذي سيكون ثقيلاً جداً في مثل هذا السياق لذلك أرى ضرورة لدراسة التناسق الصوتي كسببٍ لاختيار المفردة مما يحقق للسياق إيقاعاً داخلياً قائماً على التكرار الصوتي الذي يحققه الاختيار الدقيق للمفردة دون الإخلال بقيمته الدلالية كما سيأتي.

ومن أسباب الاختيار الصوتي في القرآن اختيار ألفاظ معينة ذات جرسٍ خاص لإشاعة جرسٍ واحد في السياق وبما يتلائم مع دلالته العامة أو بما يساعد على تثبيت أطر الصورة المرسومة ويحقق ظلالها المعنوية، وقد ذهب

بعض دارسي الصوت إلى أنه لا يتم تذوق الهندسة الإيقاعية الحقة إلا إذا حصلنا على تلاؤمٍ بين المكونات الثلاثة التي تشكل الرؤوس الثلاثة للمثلث الآتي:

معانٍ

أصوات ..................... مشاعر

واعتماداً على هذه الترسيمة (المقفلة إلى حدٍ ما) يمكن القول إنّ الأصوات في نظام اللغة الفنولوجي لا قيمة رمزية لها بينما هي تثير بعض مشاعر القارئ المستمع في كلامٍ محددٍ بالاتفاق مع المعنى ((67)).

قال تعالى: (فلا أقسم بالخنس الجوارِ الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس) (التكوير: 15 - 18) وقد اختيرت مفردات الآية مشتركة بدلالة المعنى والصوت اللذان يشكلان عنصراً واحداً في صرف مشاعر وذهن القاريء أو المستمع في اتجاه واحد وهو الغاية التعبيرية التي يحتاجها السياق أو البنية العامة فمدار الدلالة المعجمية لمفردات الآية تدور حول الخفاء والمخافتة فالخنس في أغلب معانيها تدلّ على السر والاختفاء والحبس والتأخر وهي هنا بمعنى اختفاء هذه الكواكب ((68)) والكنس التي تستر كما تكنس الظباء في المغار ((69)) وعسعس الليل اعتكرت ظلماؤه وهو من الأضداد أي أقبل وأدبر وذلك في مبدأه ومنتهاه فالعسعسة رقة الظلام وذلك في طرفي الليل وهو الخفيف من كل شيء ((70)) وقد شكلت هذه المفردات المختارة لهذا (هندسة) صوتية قائمة في بنائها على التكرر المقصود والمنتظم لصوت السين وعلى الشكل الآتي:

(سِ سِ سْ سْ سَ سَ) والذي ناغم بجرسه صور وإيحاء الألفاظ التي شكلته بهذه الصورة وقد نبه ابن جني كثيراً إلى معنى المخافتة والخفاء الذي يحققه صوت السين كما في مقارنته بين (صعد وسعد) قائلاً:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير