(جعلوا الصاد لأنها أقوى - لما فيه أثر مشاهد يُرى وهو الصعود في الجبل والحائط ونحو ذلك وجعلوا السين - لضعفها - لما لا يظهر ولا يُشاهد حساً ... فجعلوا الصاد لقوتها مع ما يشاهد من الأفعال المعالجة المتجشمة وجعلوا السين لضعفها فيما تعرفه النفس وإن لم ترَهُ العين والدلالة اللفظية أقوى من الدلالة المعنوية) وكذلك قال في تفريقه بين القسم والقصم ((71)) ومن كلام ابن جني هذا نفهم دقة ما أشار إليه ابن القيم رحمه الله حين فرّق بين سورة (الفلق) و (الناس) فـ (سورة الفلق تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو ظلم الغير له بالسحر والحسد وهو شرٌ (من خارج) وسورة الناس تضمنت الاستفادة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه وهو شر (من داخل)) ((72)) لذلك تكرر صوت السين في الاختيار في سورة الناس دون الفلق قال تعالى: (قل أعوذ برب الناس ملك الناس آله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس) (سورة الناس) لنجد بهذا نكتةً أخرى من نكت ذكر وتكرار مفردة الناس مع أن السياق يقتضي أن يكون الإضمار أولى هنا من الإظهار ليكون تكرار هذا الصوت مؤكداً لصورة الخفاء التي عليها السورة وكذلك الوسوسة التي هي صوت الحلي والهمس الخفيُّ وكذلك يُقال (لهمس الصائد) ((73)) وأصلها الصوت الذي لا يحسُّ أو الإلقاء الخفيُّ في النفس إما بصوتٍ خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه وإما بغير صوت كما يوسوس الشيطان إلى العبد … وأما الخناس فهو من خنس يخنس إذا توارى واختفى … ((74)) وبهذا ندرك تكرار السين أيضاً في قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلَمُ ما توسوسُ به نفسه …) (ق: 16) حيث تكرر صوت السين أربع مرات وهو ما لم يتكرر في الخمسة عشر آية السابقة غير سبع مرات فقط، كل ذلك لما يمتاز به السين من صفاتٍ فهو
(مصمت، رخو، مهموس، منفتح: مستفل، مرقق، غير مطبق) ((75)) وهكذا استعملته العرب حين عبّروا عن المخافتة والخفاء يقول طرفة ((76)):
وصادِقتا سَمْعِ التوجسِ للسُّرى * لهجسٍ خفيٍّ أو لصوتٍ مُنَدِدِ
فا (التوجس: التسمّع بحذرٍ والهجس الصوت الخفيّ وقوله للسرى أي في السرى أوعند السرى ويقال سرى وأسرى إذا سار بالليل) ((77)) فلولا المخافتة ما تكرر خمس مراتٍ في البيت وهو لم يتكرر في أي بيتٍ من معلقة امريء القيس أكثر من ثلاث مرات فقط. وعلى الرغم من عدم وجود دراسات واضحة عند المفسرين المحدثين للإيقاع والهندسة الصوتية فأنني لا أرى ضرراً في تأكيد قضية الاهتمام باختيار المفردة لصنع تشكيلات صوتية، هذا الاختيار الذي بدا واضحاً جداً في مفردات سورة النازعات قال تعالى: ( ... فالمدبراتِ أمراً يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوبٌ يومئذٍ واجفة ... ) (النازعات 5 ـ 8) حيث ستشكل هذه المفردات المختارة التشكيلة الآتية:
را را تَرْ جُ فُرْ را ج فَهْ هَرْ را د فَهْ وا ج فَهْ،
وبهذا تتشكل كل بنية على انفراد بالشكل الآتي:
رَا ــــ رَا ــــ رَا ــــ رَا ــــ وَا
تَرْ ــــ فُرْ ــــ هُرْ ــــ
جُ ــــ جِ ــــ دِ ــــ جِ
فَهْ ــــ فَهْ ــــ فَهْ
فأيُّ تناغمٍ أبدع أو أروع من هذا وسآتي بعد قليلٍ إلى دلالة تكرار صوت الراء لأنصرف هنا إلى بيان الدقة التي ما بعدها دقة في الراء الذي استخدم ساكناٌ مع التاء والفاء والهاء (تَرْ و فَرْ و هَرْ) والتي لن يشكل اختلافها فارقاً صوتياً لأنها قد اتفقت في أهم صفاتها الصوتية فكلها:
مهموسة، مرققة، صامتة، مستفلة، احتكاكية، منفتحة ... ((78)).
لذلك لن يشكل استبدالها بعضها ببعض فارقاً صوتياً يذكر وكذلك الأمر في استبدال الجيم بالدال
(جِ - جِ - دِ - جِ) لأنهما يشتركان في كونهما:
شديدين، مجهورين، صامتين، منفتحين، مستفلين، مرققين ((79)).
مما يعني قصدية كاملة في الاختيار والعدول على حدٍ سواء، وإذا كان أمرؤ القيس أو الأعشى أو البحتري ... قد نجحوا في مثل هكذا استخدام للمفردات وبما يحقق ذلك الجرس المتفق مع الدلالة إلى حدٍ كبيرٍ إلا أن أبياتهم التي اعتمدت التكرار الصرف أصبحت أسيرة الثقل والمعاضلة التي يحققها ثقل التكرار الحرفي كما هو معروف
¥