الثاني غير الأول، فهم يقولون إن الآية تشير إلى يسرين مع العسر الواحد (27)؛ ليكون ذلك أقوى للأمل وأبعث على الصبر (28). وقد كثر الحديث عن نقض هذه القاعدة وذكر السبكي (29) أنها منتقضة بعدة آيات كقوله تعالى: (وهو الذي في السماء آله وفي الأرض آله) (الزخرف: 84) وقوله تعالى: (يسئلونك عن الشهر الحرام قتالٌ فيه قل قتالٌ فيه كبير) (المائدة: 45) وعدّها الزركشي منقوضة بعدة آيات منها (إن النفس بالنفس) (الرحمن: 60) و (هل جزاء الإحسانِ إلا الإحسان) (الرحمن: 60) وقوله تعالى: (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء) مع قوله (قالت إحداهما) (القصص: 25، 26) .... الخ، ولا يصح الاستشهاد بهذا الذي ذكروه فالآية الأولى النكرة فيها بمعنى معبود، والاسم المشتق إنما يقصد به ما تضمنه من الصفة (30)، وأجاب الطيبي بأن هذا من التكرار وإناطة أمرٍ زائدٍ وهذه القاعدة فيما إذا لم يقصد التكرير (31)، أما قوله تعالى: (ويسئلونك عن الشهر الحرام ... ) فقد أجيب عنه بأنّ أحدهما من كلام السائل والثاني من كلام النبي) صلى الله عليه وسلم) والقاعدة أن يكون الكلام من متكلمٍ واحد (32)، كما أن الثاني ليس الأول لأن المراد بالأول المسؤول عنه القتال الذي وقع في إحدى السرايا سنة اثنين من الهجرة لأنه سبب نزول الآية والمراد بالثاني جيش القتال (33) أما (إن النفس بالنفس) و (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) فهذا من الكلام المتحد الذي يُعدُّ ثانيه مكمل لأوله جزاء عليه فلا يقاس على هذا، والآية الأخيرة التي قال عنها الزركشي: (وأما قوله تعالى: (فجاءَتهُ إحداهما تمشي على استحياء) بعد قوله (قالت إحداهما ... ) فيحتمل أن تكون الأولى هي الثانية وألا تكون) (34)، وهذا مما لا يصح إذا إن الآية (فجاءته) ليست بعد (قالت إحداهما) وإنما هي قبلها كما هو في الترتيب المصحفي غير أن كلام الزركشي (بعد قوله) يوهم أنها بعدها، لذلك أجاز أن تكون الأولى هي الثانية وألا تكون، وحين ترتب الآيات كما هي في المصحف سيتعين أن تكون الثانية هي الأولى ليصح إخبارها عنه، وهذا ما فهمه الزمخشري حين قال (هي التي ذهبت به وطلبت إلى أبيها أن يستأجره .. ) (35)، ويبدو أنّ خطأ الزركشي في ترتيب الآيات هو ما أوهمه بهذا الحكم، والله أعلم.
ويبدو أن هذه الأقوال السابقة جعلت الطاهر بن عاشور يخطأ هذه القاعدة محتجاً بما يلي (36): إن القاعدة في إعادة النكرة معرفة لا في إعادة المعرفة معرفة، وهذا مخالف لكل من ذكر القاعدة (37)، وأنّ القاعدة خاصة بلام العهد لا بلام الجنس وهذا غير صحيح (فأن المعرّف إذا أعيد يكون الثاني عين الأول سواء كان معهوداً أو جنساً) (38)، وحتى لو صحّ ما قاله الشيخ فأن السيدة بنت الشاطئ قد رجحت أن (أل) في الصدر للعهد لا للاستغراق .... (39)، وذكر أن القاعدة في إعادة اللفظ في جملة أخرى وهذا تكرير للجملة الأولى وليست إعادة في كلامٍ ثانٍ كيف هذا ومن المفسرين من ذهب إلى أن الجملة الثانية استئنافية (40) ويكفي للتدليل على صحة هذه القاعدة قوله) صلى الله عليه وسلم) (لن يغلب عسرٌ يسرين) (41).
الحواشي:
1) ينظر: في البنية والدلالة 153.
2) ينظر في هذه المعاني: الاتقان 1/ 324 – 325.
3) ينظر: من بلاغة القرآن 130.
4) التحرير والتنوير 30/ 174.
5) ينظر: لغة القرآن 396.
6) ينظر: المختار 1/ 103 – 104.
7) الزمر 56.
8) الكشاف 3/ 404.
9) مفتاح العلوم 85.
10) ينظر: الأسس النفسية 118 – 119.
11) ينظر: الكشاف 4/ 178، وهو قول الزركشي البرهان 4/ 87.
12) ينظر: البرهان 4/ 87، وهو قول ابن الخشاب.
13) ينظر: تفسير الرازي 30/ 182.
14) ينظر: التعبير الفني 268.
15) ينظر: التحرير والتنوير 30/ 274.
16) ينظر: كلام ابن جني عن مادة (ك ل م) ودلالة مشتقاتها على القوة والشدة الخصائص 2/ 14.
17) لسان العرب (آله) 13/ 469.
18) ينظر: تفسير القاسمي 17/ 6313، ودّرة التنزيل 537 – 538.
19) ينظر: من بلاغة القرآن 134.
20) ينظر: التحرير 30/ 240، وتيسير الكريم الرحمن 7/ 600.
21) فيما نقله الطاهر في التحرير 30/ 240 – 241.
22) التحرير 30/ 241.
23) ينظر: التحرير 30/ 241.
24) التفسير الواضح 30/ 36.
25) ينظر: التحرير والتنوير 30/ 437.
26) ينظر: التعبير الفني 268.
27) ينظر: تفسير الماوردي 4/ 477، وتفسير أبي السعود 1/ 882، والإتقان 4/ 477، والتحرير والتنوير 30/ 415، والبرهان 4/ 94، 98، وغرائب القرآن 30/ 116.
28) ينظر: تفسير الماوردي، قاله: ثعلب 4/ 477.
29) ينظر: عروس الأفراح، والإتقان 1/ 328.
30) البرهان 4/ 99.
31) ينظر: البرهان 4/ 98 – 99، والإتقان 1/ 328 – 329.
32) ينظر: البرهان 4/ 99، والإتقان 1 /.
33) ينظر: الإتقان 1/ 328.
34) البرهان 4/ 97.
35) الكشاف 3/ 172.
36) ينظر: التحرير والتنوير 30/ 415 – 416.
37) ينظر: تفسير أبي السعود 5/ 882 …
38) تفسير أبي السعود 5/ 882.
39) ينظر: التفسير البياني 1/ 71.
40) ينظر: تفسير أبي السعود 5/ 882، والأعمال الكاملة لمحمد عبده 5/ 118.
41) ينظر: غرائب القرآن 30/ 116، والإتقان 1/ 327.
د. عامر مهدي العلواني
مدرس البلاغة والنقد في قسم اللغة العربية
جامعة الأنبار
¥