يقول حفظه الله كما في رسالته الموسومة " نصائح منهجية لطالب علم السنة النبوية ": " نبه العلماء قديماً على أهمية التخصص في العلوم، فقال الخليل ابن أحمد الفراهيدي (ت 170هـ): (إذا أردت أن تكون عالماً فاقصد لفن من العلم، وإذا أردت أن تكون أديباً فخذ من كل شيء أحسنه).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ): (ما ناظرني رجل قط وكان مفنناً في العلوم إلا غلبته، ولا ناظرني رجل ذو فن واحد إلا غلبني في علمه ذلك).
إن هذه العبارات وأمثالها من الأئمة الدالة على فضل المتخصص في علم واحد على الجامع لأطراف العلوم (أو على رأي الخليل بن أحمد: الدالة على فضل العالم على الأديب المتفنن)، جاءت لتؤكد أن كل علم من العلوم بحر من البحور، لا يعرفه ويصل إلى كنوزه وخفاياه إلا من غاص أعماقه، وقصر حياته على الغوص فيه. أما من اكتفى بالسباحة على ظهر كل بحر من بحور العلم، فإنه إنما عرف ظواهر تلك البحور، وما عرف من كنوزها شيئاً.
وأخص بالذكر أهل عصرنا، فإن العلوم قد ازدادت تشعباً، وعظم كل علم عما كان، بمؤلفات أهله فيه على امتداد العصور السابقة، وبزيادة اختلافهم وأدلة كل صاحب قول منهم؛ ومع ذلك فقد ضعفت الهمم، ونقصت القدرات عما علمناه من أئمتنا السالفين؛ وذلك بين واضح لمن عرف سيرهم وأخبارهم ووازن بينهما وبين حالنا؛ أولئك كانوا بما تعلموا وعلموا وألفوا وجاهدوا وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر كأن أعمارهم ليست بين الستين والسبعين وإنما بين مائة وستين ومائة وسبعين!! بل والله أكثر!!! أولئك كانت حياتهم كرامة، و وجهدهم معجزة خارقة للعادات!!! فأين نحن من أن نحوي علومهم؟! وأنى لنا أن نستوعب علم ما خلفوه لنا؟! ومع ذلك فقد تكلم هؤلاء أنفسهم عن فضل التخصص في العلم، فما أجهلنا إن حسبنا أننا بغير التخصص سنفهم علماً من العلوم!!!
ولقد سبرت بعض أحوال المتعلمين، فوجدت أكثرهم علماً وإنصافاً وتواضعاً، وأدقهم نظراً وفهماً، وأحسنهم تأليفاً وإبداعاً: هم أصحاب التخصصات. في حين وجدت أقلهم علماً وإنصافاً، وأكثرهم كبراً وتعالياً وتعالماً، وأبعدهم عن الفهم والتدقيق وعن الإبداع والإحسان في التأليف: المتفننين أصحاب العلوم، أو سمهم بالمثقفين؛ إلا من رحم ربك.
ومن فضل صاحب التخصص الفضل الظاهر، الذي يقرني عليه المنصف، أن صاحب التخصص لا يثرب على المتفنن، بل يراه أكثر أهلية منه في أمور كإلقاء المحاضرات والدعوة ومواجهة العامة، ويعتبره بذلك على ثغرة من ثغرات الإسلام، ويرى أن الأمة في حاجة إلى أمثاله. وأما أصحاب الفنون، فعلى الضد من ذلك، فهم أكثر الناس تثريباً وعيباً على المتخصصين، ولا يرون لهم فضلاً عليهم ولا في العلم الذي تخصصوا فيه، وينازعونهم مسائلة (وهم بها جهلاء)، ويشنعون عليهم لعدم معرفتهم ببعض ما لم يتخصصوا فيه.
ولك بعد هذا أن تحكم، أي الفريقين أدخل الله في قوله تعالى (إن الله يحب المقسطين).
ولله ما يلاقيه أصحاب التخصصات من إخوانهم المتفننين!! من عدم فهم الأخيرين لتخصصاتهم، مع كلامهم فيها ومنازعتهم أهلها، بل قد يصل الأمر إلى استغلال أصحاب الفنون علاقتهم بالعامة والغوغاء، وانبهار هؤلاء بهم، فيتطاولون على أصحاب التخصصات وعلى علومهم، بما لا يؤلم العالم شيء مثله، وهو الكلام بجهل، وتشويه العلوم.
ومن فضل صاحب التخصص إذا وفقه الله تعالى، أنه من أكثر الناس لقالة (لا أدري)، إذا سئل عن غير تخصصه. ولهذه القالة بركة لا يعرفها إلا قليل، فهي باب التواضع الكبير، وباب للعلم أكبر. وأما صاحب الفنون، فهو عن (لا أدري) أبعد؛ لأنه يضرب في كل علم بسهم، وبكثير جوابه على أسئلة العامة وأنصاف المتعلمين، التي هي – في الغالب – سؤالات عن الواضحات وعن ظواهر العلوم؛ فينسى مع طول المدة (لا أدري)، ولا يعتاد لسانه عليها، ولا تنقهر نفسه لها؛ لذلك فهو عن بركاتها ليس بقريب!!
ثم إن للعلم دقائق لا يعرف المتفننون عنها شيئاً، أما المتخصصون فقد خبروها، وقادتهم إلى دقائق الدقائق. فهم فقهاء العلوم حقاً، وأطباء الفنون صدقاً.
يقول الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني تلميذ الشافعي (ت 260هـ): (سمعت الشافعي يقول: من تعلم علماً فليدقق، لكيلا يضيع دقيق العلم).
كذا نصائح الأئمة، نور على نور!!
¥