وأما الشافعي فقد كان آمناً من ضياع جليل العلم وعظمه، خائفاً من ضياع دقيقة. أما نحن الآن فنقول: (من تعلم علماً فليدقق، لكيلا يضيع جليل العلم)؛ فدققوا يا بني إخوتي ما شئتم من التدقيق، فنحن مع تدقيقكم هذا لعلى جليل العلم وجلون.
وهنا أنبه على أن مطالبتنا بالتخصص لا يعني أن نطالب بذلك على حساب فروض الأعيان من العلوم، كتصحيح العقيدة وعلم التوحيد الجملي، وما يحتاج إليه من فقه العبادات، وما شابهها من الفروض العينية من العلوم؛ فهذا ما لا يجوز على مسلم جهله، فضلاً عن طالب العلم؛ بل نحن نطالب طالب العلم بما فوق ذلك، وهو أن لا يكون جاهلاً بنفع كل علم نافع (ولا أقول أن يكون عالماً بكل علم نافع، فهذا ضد ما أحث عليه)؛ لأن الجهل بنفع علم ذي علم فائدة دنيوية أو أخروية يدعو إلى معاداة ذلك العلم، على قاعدة: من جهل شيئاً عاداه؛ ويقبح بطالب العلم أن يعادي علماً نافعاً، مهما قل نفعه في رأيه، فإنه لا ينقص على أن يكون فرضاً كفائياً.
وما أجمل وصية خالد بن يحيى بن برمك (ت 165هـ) لابنه، عندما قال له: (يا بني، خذ من كل علم بحظ، فإنك إن لم تفعل جهلت، وإن جهلت شيئاً من العلم عاديته، وعزيز علي أن تعادي شيئاً من العلم).
وأخص من العلوم مما يقبح بطالب العلم جهله العلوم الإسلامية جميعاً، كعلم الفقه وأصوله والتفسير وأصوله والعقيدة وعلوم الآلة من نحو وصرف وبلاغة وأدب، مما ينبغي على طالب علم الحديث المتخصص أن يحصل شيئاً منها. وضابط تحصيله لهذه العلوم (حتى لا يناقض ذلك مطالبتي له بالتخصص) أن يجعل مقصوده من طلبه لهذه العلوم تكميل استفادته لتخصصه وعميق فهمه له؛ حيث إن العلوم الإسلامية بينها ترابط كبير، لا يمكن من أراد التخصص في علم منها أن يكون جاهلاً تمام الجهل بما سواه. بل ربما قادته مسألة دقيقة في علم الحديث (مثلاً) إلى التدقيق في مسألة من مسائل أصول الفقه أو غيره، حتى يخرج بنتيجة في مسألته الحديثية. وليس ذلك بغريب على من عرف العلوم الإسلامية، وقوة ما بينها من أواصر القربى العلمية.
ولأزيد الأمر إيضاحاً أقول: كيف يتسنى لطالب الحديث أن يعرف الصواب في إحدى مشاهير مسائله؟ وهي مسألة الرواية عن أهل البدع وحكمها، إذا لم يكن عارفاً بالسنة والبدعة، وبصنوف البدع وأقسام المبتدعة، وبالغالي منهم ومن بدعته غليظة ومن يكفر ببدعته ممن هو بخلاف ذلك؛ وهذا كله باب من أبواب العقيدة عظيم.
وكيف يمكن لطالب الحديث أن يميز بين الروايات المختلفة، مثل زيادات الثقات: مقبولها ومردودها، والشاذة منها والمنكرة، والناسخة والمنسوخة، والراجحة والمرجوحة، إذا لم يكن عنده أصول الفقه والقدرة على الاستنباط والفهم للنصوص ما يتيح له الحكم في ذلك كله؟!
المهم أن يأخذ من العلوم التي لم يتخصص فيها، بقدر ما يخدم العلم الذي تخصص فيه، ولا يزيد على ذلك، و إلا لم يصبح متخصصاً، وإنما يكون متفنناً.
وطريقة تحصيله لتلك العلوم التي لا ينوي التخصص في واحد منها، مما لا يخرجه عن حد التخصص إلى حد التفنن، هي أن يدرس مختصراً من مختصرات تلك العلوم، تمكنه من مراجعة مطولات تلك الفنون، فيما إذ أحوجه علمه الذي تخصص فيه إلى ذلك، كما سبق التمثيل له. وعليه أيضاً أن لا يقطع صلته بعلماء تلك العلوم المتخصصين فيها، وأن يصوب فهمه من علومهم عليهم، وأن لا يستبد بشيء من علمهم دون الرجوع إليهم. " انتهى كلامه.
بقي أن نسمع رأيكم في هذه المسألة وأرجو ألا يبخل أي منكم برأيه.
ـ[أبو عبد الرحمن الشهري]ــــــــ[13 Sep 2004, 06:59 م]ـ
الأخ حرف
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أنا أرى برأي الضعيف العاجز أن عدم التخصص أفضل إقتداء بالسلف.
قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: كان ابن عباس قد فات الناس بخصال: بعلم ما سبقه، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه، وحلم، ونسب، ونائل، وما رأيت أحداً كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، ولا بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه، ولا أفقه في رأي منه، ولا أعلم بشعر ولا عربية ولا بتفسير القرآن، ولا بحساب ولا بفريضة منه، ولا أثقب رأياً فيما احتيج إليه منه، ولقد كان يجلس يوماً ولا يذكر فيه إلا الفقه، ويوماً التأويل، ويوماً المغازي، ويوماً الشعر، ويوماً أيام العرب، ولا رأيت عالماً قط جلس إليه إلا خضع له، وما
¥