كيف وقد فهم من هذا النص الصحابة الإباحة فلا زالوا يروون عن أهل الكتاب؟! روى عنهم ابن عباس وأبو هريرة وغيرهما رضي الله عنهم أجمعين. فهل أحد أفهم لكلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صحابته؟! اللهم لا.
فإذا استقر عندك هذا الأصل، جاء السؤال الثاني: إذا روينا عنهم: هل نصدقهم أم نكذبهم؟
والجواب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم) رواه البخاري رحمه الله تعالى.
وكيف نصدقهم وإنا لنردّ حديث الرجل بينه وبين شيخه انقطاع في رجل؟! فلا شك أنا نرد ما انقطع في سنده مئات السنين من باب أولى.
وكيف نكذبهم وإن الشيطان ليصدق، قال صلى الله عليه وآله وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه في القصة المشهورة التي رواها البخاري رحمه الله: (صدقك - أي الشيطان - وهو كذوب).
ويؤيد هذا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند أبي داود رحمه الله بسند ضعيف كما حققه العلامة الألباني رحمه الله، حيث قال: (فإن كان باطلاً لم تصدقوه، وإن كان حقاً لم تكذبوه). وهذا أذكره بعد الاستدلال استئناساً.
فتبين بذلك أن حديث أهل الكتاب حكمه التوقف فيه، لا يُصدّق ولا يُكذّب. وما كان هذا حاله، كان تبعاً لما يحتف به من قرائن.
فما وافق كتاب الله تعالى أو صحيح سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، علمنا أنه حق، ويثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً. كما كان صلى الله عليه وآله وسلم يستدل بموافقتهم ما في القرآن على صدقه. وكما وافقهم على ما ادعوا من أن نجاة موسى كانت يوم عاشوراء.
وما خالفهما علمنا أنه باطل، لامتناع اجتماع النقيضين. كما قد كذبهم الله تعالى في غير موضع في القرآن فيما خالفوا فيه أصول ديننا من التوحيد ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وما لم يدل عليه شرعنا بإثبات ولا نفي بقي على ما كان عليه من التوقف، إذ هو الأصل كما دلت عليه السنة. وحقيقة التوقف نوع رد كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في النزهة، وذلك لأنه لا يستدل به، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سأله أيكتب من التوراة: (أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟!) يقولها مستنكراً صلى الله عليه وآله وسلم. والحديث حسنة العلامة الألباني رحمه الله.
وبهذا يستقر إن شاء الله هذان الأصلان:
1. جواز الرواية عن بني إسرائيل، من غير كراهة.
2. ما وافق من أخبارهم ما ثبت بشرعنا قبلناه تبعاً، وما خالف رددناه قطعاً، وما لم يدل عليه شرعنا توقفنا فيه. والتوقف نوع رد.
ثم نأتي إلى قصة سليمان عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. والبحث فيها من أوجه:
أولاً: هل يثبت سندها إلى من قال بها من أهل الكتاب؟ فإن لم يثبت، خرجت من البحث هنا أصلاً.
ثانياً: هل فيها ما يوافق شرعنا فنقبلها أو فيها ما يعارضه فنكذبها أو ليس ذا ولا ذاك فنتوقف فيها؟
ثالثاً: ما موقف العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى من الأصلين الفائتين في هذه القصة؟
أما الأول فيظهر أنها تثبت إلى أهل الكتاب إذ قد علقها ابن كثير جازماً، وهو من هو في النقد رحمه الله تعالى.
وأما الثاني فيظهر لي - والله أعلى وأعلم - أن ليس في القصة ما يوافق شرعنا ولا ما يخالفه، إذ ليس فيها ما يقدح في عصمة سليمان عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، بل ولا ما يدل على وقوعه في معصية.
غاية الأمر أنه عليه السلام دبر ليرى من امرأة عزم على نكاحها ساقها، إن أعجبته تزوجها وإلا تركها. وهذا في شريعتنا جائز لا إثم فيه، فكيف يقال أنه تنقص؟!
مصداق جوازه حديث محمد بن سلمة رضي الله عنه عند ابن ماجهْ رحمه الله بسند صححه العلامة الألباني رحمه الله، قال:
(خطبت امرأة فجعلت أتخبأ لها حتى نظرت إليها في نخل لها) [وهذا تماماً كالفعل المنسوب إلى سليمان عليه السلام في قصتنا هنا، بل أشد لأنه يرى منها أكثر من قدميها وشعرها].
فقيل له: (أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!) [وهذا تماماً كالاستنكار الذي ذكره الأخ عيسى بن داود هنا، بل أشد، لأن ما استنكر في حق الصحابي، كان أولى أن يستنكر في النبي].
فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا ألقى الله في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها).
¥