قوله تعالى: (إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)
في قراءة من رفع: "ملائكته"، فيكون تقدير الكلام:
إن الله يصلي على النبي وملائكته كذلك.
أو: ملائكة الله يصلون على النبي والله كذلك، وهذا الوجه، أيضا، يبدو، للوهلة الأولى، أرجح من الوجه الأول، خلاف الأصل، لأن الخبر: "يصلون" جاء على صيغة الجمع الملائمة لـ "ملائكته".
بتصرف من "منحة الجليل"، (1/ 304).
وجعله الكسائي، رحمه الله، من باب العطف على المحل، فيكون: "الصابئون": معطوفا على محل "إن" واسمها، ومحلهما الرفع بالابتداء، وهذا العطف خلاف الأصل، لأن الأصل العطف على اللفظ لا المحل.
ونظيره قولك: إنك وزيد ذاهبان، برفع "زيد" عطفا على محل "إن" واسمها: "إنك".
بتصرف من "مغني اللبيب"، (2/ 135)، و "مباحث في علوم القرآن" للشيخ مناع القطان، رحمه الله، ص185، مبحث "العطف".
واعترض البعض على ذلك بأنه لا يجوز العطف على "إن" ومحلها قبل الفراغ من الخبر، فقوله تعالى: (إن الذين آمنوا)، لم يكتمل خبره بعد ليصح عطف "الصابئون" على محله الابتدائي، وإلى ذلك أشار الزمخشري، غفر الله له، بقوله:
لا يصحّ ذلك قبل الفراغ من الخبر، لا تقول: إن زيداً وعمرو منطلقان. اهـ
برفع "عمرو" عطفا على محل "إن" واسمها: "إن زيدا"، لأن إن لم تستوف خبرها: "منطلقان" بعد ليصح العطف على محلها.
وأشار ابن كثير، رحمه الله، إلى هذه المسألة إشارة سريعة فقال:
لما طال الفصل حسن العطف بالرفع. اهـ
أي لما طال الفصل بين: "الذين آمنوا" و "وَالصَّابِئُونَ"، بـ: "الذين هادوا" حسن العطف بالرفع لا بالنصب، فيكون الرفع استئنافا لا نسقا.
وإلى الوجه الذي ذكره الأخ عزدبان، أشار الألوسي، رحمه الله، بقوله:
وقيل: {إنٍ} بمعنى نعم الجوابية ولا عمل لها حينئذ، فما بعدها مرفوع المحل على الابتداء والمرفوع معطوف عليه، وضعفه أبو حيان بأن ثبوت {إنٍ} بمعنى نعم فيه خلاف بين النحويين. اهـ
وإلى وجه لغة بلحارث، وقد ذكره، أيضا، الأخ عزدبان، أشار الألوسي، أيضا، بقوله:
وقيل: إنه منصوب بفتحة مقدرة على الواو والعطف حينئذ مما لا خفاء فيه، واعترض بأن لغة بلحارث وغيرهم الذين جعلوا المثنى دائماً بالألف نحو رأيت الزيدان ومررت بالزيدان وأعربوه بحركات مقدرة، إنما هي في المثنى خاصة، ولم ينقل نحو ذلك عنهم في الجمع ........ والمسألة مما لا يجري فيها القياس فلا ينبغي تخريج القرآن العظيم على ذلك. اهـ
فاللغة توقيفية سماعية، فلا يقال بأن لغة بلحارث تجري على الجمع قياسا على المثنى، لأن هذه اللغة لم تسمع منهم، خاصة، إلا في المثنى.
وقد قرأ أبيّ رضي الله عنه: «والصابئين»، بالنصب. وبها قرأ ابن كثير المكي، رحمه الله، وهي قراءة متواترة لا إشكال فيها.
وفائدة هذا التغيير في السياق:
التنبيه على أن الصابئين يتاب عليهم إن صحّ منهم الإيمان والعمل الصالح، فما الظنّ بغيرهم. وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالاً وأشدّهم غياً، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبئوا عن الأديان كلها. اهـ، من كلام الزمخشري في كشافه.
فالعرب إذا أرادت لفت انتباه المستمع إلى معنى معين، غيرت حركة إعرابه، لشد انتباه المستمع، فلو كان السياق: إن الذين آمنوا .............. والصابئين، لما انتبه المستمع إلى المعنى الذي ذكره الزمخشري آنفا، فلما غيرت حركة إعراب "الصابئون"، تنبه المستمع إلى وجود معنى ما اقتضى هذا التغيير الإعرابي.
كما فعل الشاعر في البيت المتقدم:
وإلا فاعلموا أَنّا وأنتم ******* بُغاةٌ ما بقِينا في شقاق
إذ قدم قوله: (وأنتم) تنبيهاً على أن المخاطبين أوغل في الوصف بالبغاة من قومه، حيث عاجل به قبل الخبر الذي هو (بغاة) لئلا يدخل قومه في البغي قبلهم، مع كونهم أوغل فيه منهم وأثبت قدماً. اهـ، من كلام صاحب الكشاف أيضا.
فالتقديم والتأخير وتغيير السياق، كما تقدم، لا يكون إلا لنكتة بلاغية.
وعن معنى الصابئ يقول ابن كثير رحمه الله:
¥