تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

دون استمرار الحفظ والعناية حتى بلوغ الصراط، وهذا يعني أن (هدى) الأولى تتضمن معنى غير معنى الثانية، فالآية الأولى – والله أعلم- بمعنى: يبلغك صراطا، والآية الثانية بمعنى: يرشدك إلى صراط، وعلى هذا فالفعلان لا يتضارعان معنوياً وإنما المسألة مبنية على التضمين، وهذا على أن التضمين قياسي، وليس مقصورا على السماع (8).

وقد ذكر ابن عطية أفعالا تعدت إلى مفعول واحد لتضمنها معنى ما يتعدى إلى واحد، كما في قوله تعالى: ("فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ... " البقرة 178) فـ (شيء) في هذه الآية كما يرى ابن عطية "مفعول لم يسم فاعله، وجاز ذلك ... من حيث تقدر (عفي) بمعنى ترك، فتعمل عملها" (9)، وأجاز في أفعال أخرى أن تتعدى إلى مفعول لتضمنها معنى ما يتعدى إلى مفعول واحد، ثم هي نفسها في موضع آخر تتعدى إلى مفعولين لتضمنها معنى ما يتعدى إلى مفعولين، كـ (جعل) التي رأى أنها بمعنى خلق، في قوله تعالى: ("وَهُوَ الذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا ... " الأنعام 97) "لدخولها على مفعول واحد" (10)، بينما يذهب في قوله تعالى: ("الذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا ... " البقرة 22) إلى أن " (جعل) بمعنى صيّر، ... لتعديها إلى مفعولين" (11)، ويرى أنه قد يُضمَّن ما يتعدى بنفسه معنَى ما يتعدى بحرف جر فَيَسلك سبيله، كما في (قُضِى) الذي تعدى "بـ (إلى) لما كان بمعنى (فرغ)، و (فرغ) يتعدى بـ (إلى)، ويتعدى باللام" (12)، كما في قوله تعالى: ("لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ... " يونس 11) وغير ذلك كثير (13)، مما يوحي بأن ابن عطية يرى قياس التضمين، ويزيدني اطمئنانا إلى نسبة هذا إليه أنه يرى أن (خلق) في قوله تعالى: ("وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا" النساء28) يصح أن يكون "بمعنى (جعل) فيكسبها ذلك قوة التعدي إلى مفعولين، فيكون قوله: (ضعيفا) مفعولا ثانيا" (14)؛ وعلى الرغم من إنكار بعض النحاة تضمين (خلق) معنى (جعل) (15)، واعتبارهم إياه غريبا لم يقل به نحوي (16)، فإنه يمثل توسع ابن عطية في جواز القياس في التضمين، ولا يقيس اعتباطا، وإنما يستعمل ويسلك منهج السبر والتقسيم في الوصول إلى الفعل الذي يشربه معنى الفعل الآخر الذي يضمنه معناه، كما فعل عند تفسير قوله تعالى: ("مَا جَعَلَ اللهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ .. " المائدة 103) حين رأى أن (جعل) في هذه الآية لا يتجه أن يكون بمعنى خلق الله، لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها، ولا هي بمعنى (صير) لعدم المفعول الثاني، وإنما هي بمعنى: (ما سنّ ولا شرع)، فتعدت تعدي هذه التي بمعناه، إلى مفعول واحد (17)، وقد اعترض أبو حيان على ابن عطية بحجة أن النحاة لم يذكروا في معاني (جعل) شرع، بل ذكروا أنها تأتي بمعنى (خلق) وبمعنى (ألقى) وبمعنى (صيّر) وبمعنى الأخذ في الفعل، فتكون من أفعال المقاربة، وذكر بعضهم بمعنى: سمى…. والحمل على ما سُمع أولى من إثبات معنى لم يثبت في لسان العرب" (18)، وهذا لا يضعف من رأي ابن عطية ومذهبه في هذه المسألة، لأن هناك بعض المعاجم (19) ذكرت لـ (جعل) أكثر من عشرة معان، استلهمت من سياقاتها، كما وافق ابنَ عطية كثيرٌ من المعربين والمفسرين (20)، وهذا يُقَوِّي جواز القياس في التضمين عندهم.

ثانيا: المجرور بحروف الجر

اختلف النحاة في تعاقب حروف الجر إلى مذهبين (21):

الأول/ أن حرف الجر ليس له إلا معنى واحد أصلي، فإن أدّى غير معناه الأصلي فهو إما بتضمين الفعل أو العامل معنى فعل أو عامل آخر يتعدى بهذا الحرف، وينسب هذا المذهب إلى البصريين.

الثاني/ أن لحرف الجر الواحد أكثر من معنى حقيقي، وقَصْرُه على معنى واحد تعسّف –عندهم- لا مسوّغ له، لأن الحرف كلمة كالأسماء والأفعال التي صحّ أنها تؤدي عدة معانٍ حقيقية، وينسب هذا المذهب إلى الكوفيين.

وقد انتصر كثيرون لنظرية التضمين في الأفعال لا الحروف، ومنهم ابن العربي الاشبيلي (22)، يقول: "وكذلك عادة العربي أن تحمل معاني الأفعال على الأفعال لما بينهما من الارتباط والاتصال، وجهلت النحوية هذا، فقال كثير منهم: إن حروف الجر يبدل بعضها من بعض، ويحمل بعضها معاني البعض، فخفي عليهم وضْعُ فعلٍ مكان فعل وهو أوسع وأقيس، ولجؤوا بجهلهم إلى الحروف التي يضيق فيها نطاق الكلام والاحتمال ".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير