- دخوله على النبي صلى الله عليه وسلم بطريقةٍ مخالفةٍ لما عهده الصحابة (رضوان الله عليهم)، من طريقة الأعراب وما فيها من جلافة، وجهل بأصول السؤال والخطاب. فهذه الأحوال كلها تدلُّ على أنَّ هذا الحديث قد اشتمل على مثيراتٍ كثيرةٍ دعت الرَّاوي لأن يسترسل في ذكرها بدقةٍ فائقةٍ، وهذا ما لاحظه الدكتور الخالدي بقوله (2): ((فقد كانت ثياب الرجل بيضاء شديدة البياض، وشعره أسود شديد السواد، وكان أنيق الملابس لا يُرى أثر السفر على ثيابه ولا على شعره ولا على بدنه، فكأنه خارجٌ من بيتٍ قريبٍ للمكان الذي يجلسون فيه.
والغريب أنه لا يعرفه أحدٌ من الصحابة الجالسين، فلو كان من أهل المدينة لعرفوه، ولو لم يكن من الدينة، ولو كان مسافرا قادماً من بعيدٍ، لكان أشعث أغبر، فكيف جمع بين أناقة ونظافة مظهره وبين عدم معرفتهم به.
بعد ذلك تصرَّف الرجل الغريب المثير تصرفاً أكثر إثارةٍ، زاد في انفعال وتفاعل الصحابة الجالسين، فقد اخترق الرجل الصحابة الجالسين، وأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جلس إليه، ثم اقترب منه كثيراً، بأن أسند ركبتيه إلى ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وضع كفيه على فخذي نفسه، وجلس أمام الرسول صلى الله عليه وسلم جلسة المتأدب المتعلِّم)).
ومن أمثلة هذا اللون من الأساليب أيضاً ما رواه أبو سعيد الخدري حيث قال (3): ((جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ونحن جلوسٌ حوله ..... ))
لكن لسائلٍ أن يسأل: ما الشيء اللافت في هذا، والنبي صلى الله عليه وسلم يخاطبهم دوماً من على المنبر؟ فالجواب: نعم، هذا هو الغالب من حال النبي صلى الله عليه وسلم في مخاطبة أصحابه، ولكن هذا يكون في الخطبة، فيكون استعمال المنبر في الخطبة طبيعياً، والأمر هنا ليس كذلك، لأنَّ الرَّاوي ذكر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر، وفي الخطبة لا يجلس الخطيب على المنبر وإنما يقف عليه وقوفاً، ولهذا كان الجلوس فيه إثارة للانتباه، مما جعل الرَّاوي ينقل لنا هذا الحال ويصفه.
ونظير هذا الحديث ما رواه ابن عباس حيث قال (4): ((جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوماً على المنبر عليه ملحفة متوشحاً بها،عاصباً رأسه بعصابةٍ دسماء، قال: فحمد الله ... )) وكذلك ما رواه مسلم في صحيحه (5) (( .... فلما قضى رسول الله صلاته جلس على المنبر وهو يضحك، فقال ليلزم كل إنسان مصلاه، أتدرون لم جمعتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم .... الحديث))
فهذه أساليب إثارةٍ بصريةٍ سبقت الحديث،وآتت ثمارها حيث إنَّ الصحابة قد انتبهوا لهذه الإشارات فنقلوها لنا نقلاً دقيقاً، بل إنَّ الحديث الأخير اشتمل على أكثر من أسلوب، حيث ذكر الراوي أنَّه صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر وضحك،وهذا بحدِّ ذاته وسيلة من وسائل الإثارة.
المطلب الثاني: أساليب تشويق تأتي أثناء العملية التعليمية.
وهي أساليب تشويقٍ بصريةٍ تأتي أثناء الخطاب، وقد يرى البعض أنَّ هذا الأمر قد يتناقض مع إثارة الانتباه من خلال البصر، لأنَّ أساليب الإثارة البصرية غالباً ما تكون قبل بداية الكلام لتلفت الانتباه إليه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قد استخدم عدداً من الأساليب أثناء حديثه مع أصحابه، لتقرير مسائل مهمة، فأراد شدَّ انتباههم للتركيز على ما سيقال أيفعل. وهذه الأساليب جاءت على صورٍ منها:
أولاً: التَّحول من الكلام إلى الإشارة،من المعلوم أنَّ الكلام والعبارة أكثر إفصاحاً عن مراد المتحدِّث من الإشارة أو الرمز، لأنَّ الإشارة قد لا ينتبه لها إلا العدد القليل عندما لا يكون هناك داعٍ لاستعمالها، لكنها تكون أكثر تأثيراً وأوضح دلالةً إذا اقترنت بما يدل عليها، وهذا بيان ذلك:
- قد تأتي الإشارة بعد سؤالٍ وطلبٍ، ومعلومٌ أنَّ السؤال يحتاج إلى جوابٍ، وعندما لا يسمع السائل ومن معه الجواب فالتَّصرف التوقع منهم أن تشخص أبصارهم إلى المتكلم، فيتلقون الإشارة، وهذا كإشارته صلى الله عليه وسلم، إلى لسانه عندما سأله سفيان بن عبدالله الثقفي: ((فما أتقي؟)) (6)
¥