وكذلك عندما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، علامات الساعة، فقال: ((يقبض العلم، ويظهر الجهل والفتن، ويكثر الهرج، قيل: يا رسول الله وما الهرج؟ فقال هكذا بيده فحرفها، كأنه يريد القتل)) (7).
- قد تأتي الإشارة مقترنة بألفاظ تدلُّ عليها،كقولهصلى الله عليه وسلم: هكذا، هاهنا، كهاتين، .... .
وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: ((ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب، اليوم فُتح من ردم، يأجوج ومأجوج هكذا)) (وأشار بأصبعيه السبابة والإبهام وحلَّق بينهما) (8).
فهذه بعض حالاتٍ يظهر من خلالها التحول من الكلام إلى الإشارة، وكيف أنَّ هذه الإشارة قد حظيت بالاهتمام نظراً لاقترانها بما يدلُّ عليها، وهناك أمثلةٌ استخدمت فيها الإشارة وكانت دلالتها أشدُّ وضوحاً، وأكثر تعبيراً من الكلام، وذلك كقوله (صلى الله عليه وسلم): ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا))، (وأشار بالسبابة والوسطى وفرّج بينهما) (9). فهذا الحديث فيه انتقالٌ من الكلام إلى الإشارة بقرينة اللفظة (هكذا)، ومن ثم وصف الإشارة التي أشار بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الإشارة قد عبّرت عن المطلوب بدقةٍ واختزلت عدداً من الكلمات، وأعتقد أنَّ العبارة لاتستطيع أن تفي بما اشتملت عليه الإشارة من التوضيح ولإيجاز، ولهذا كان استعمالها أكثر جدوى وفائدة، وذلك لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (هكذا)، لم نعرف على ماذا دلّت الكلمة إلا من خلال وصف الصحابي لها بقوله: (وأشار بالسبابة والوسطى وفرّج بينهما). وهذا الوصف من الصحابي (رضي الله عنه) هو بيت القصيد، وثمرة هذا الأسلوب الرائع، لذا نقله لنا الصحابي بدقةٍ متناهية غير غافلٍ عن ذكر تفاصيله من خلال قوله: (وفرّج بينهما).
وبتفحص وصف الصحابي للإشارة وتحليلها يتبين لنا نجاعة هذا الأسلوب وأهميته، وكيف أنه أضحى أسلوب تشويقٍ وإثارةٍ، إذ إنَّ الصحابي (رضي الله عنه) قال: (وأشار بالسبابة والوسطى) أي أنَّ كافل اليتيم مع النبي (صلى الله عليه وسلم) كهذين الأصبعين في هذه اليد معاُ. لكن في قول الصحابي: (وفرّج بينهما)،وفي روايةٍ: (وفرّق بينهما) إشارةٌ إلى أنَّ كافل اليتيم قد يشارك النبي (صلى الله عليه وسلّم) في أصل الجزاء وهو دخول الجنة، لكنه يفترق عنه بالمنزلة، قال ابن حجر (10) (852هـ): ((وفرج بينهما:أي بين السبابة والوسطى، وفيه إشارة إلى أنَّ بين درجة النبي (صلى الله عليه وسلم) وكافل اليتيم قدر تفاوت ما بين السبابة والوسطى، وهو نظير الحديث الآخر: بعثت أنا والساعة كهاتين)).
فبهذا يتبين كيف أنَّ التحول من الكلام إلى الإشارة أثناء الكلام كان له دلالات كثيرة أبلغ وأوضح من العبارة والكلام، ولهذا استحقت أن يٌقرن بها أسلوب إثارةٍ وتشويق.
ثانياً: تغيير الهيئة أثناء الكلام، أو الإتيان بما يٌستغرب لحث الحاضرين على طلب التفسير.
وذلك بأن يكون المتكلِّم على هيئة معينة من جلوس أو وقوف، فيغيرها ويواصل حديثه من باب لفت الانتباه واستثارة المخاطبين، في إشارةٍ إلى أهمية وخطر ما سيقال بعد هذا التغير.
ولا يخفى أنَّ هذا أسلوب إثارةٍ بصري قصد منه لفت الانتباه، وقد نتأكد من فعالية هذا الأسلوب من خلال وصف الراوي لهذا التغير ومدى ملاحظته له.
ومن ذلك ما رواه البخاري (11) عن أبي بكرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر (ثلاثاً)؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، - وجلس وكان متكئاُ – فقال: ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور ..... ))
والشاهد هنا هو قول الراوي: (وجلس وكان متكئاً) وفي بعض الروايات: (وكان متكئاًً وجلس)، وهذه الحركة - التحول من الاتكاء إلى الجلوس – هي من باب إثارة الاهتمام والانتباه وشدِّ السامع لما سيقال، ولهذا قال ابن حجر (12): ((ويشعر بأنه اهتم بذلك حتى جلس بعد أن كان متكئاً)).
والشاهد من هذه الأحاديث أنها اشتملت على أساليب تشويق بصرية حدثت أثناء عملية التعليم أو قبلها حتى تُؤتي أكلها ويتحقق المراد منها، ولهذا لم ترد في هذا اللون شواهد لأساليب بصرية بعد العملية التعليمية نظراً لعدم جدواها.
¥