1 - إن اللغة في تطور مستمر من شأنه أن يفسدها، ولكل عصر لغته الخاصة التي ينبغي النظر إليها على أنها نظام خاص من الرموز والعلامات، وعلى هذا فإنه لفهم وثيقة ما، ينبغي معرفة لغة العصر، أعني معنى الألفاظ والصيغ في العصر التي كتبت فيه الوثيقة. ومعنى اللفظ يتعين بجمع المواضع التي استعمل فيها ...
2 - والاستعمال اللغوي يمكن أن يختلف من إقليم إلى آخر، ولهذا ينبغي معرفة لغة الإقليم الذي كتبت فيه الوثيقة، أعني المعاني الخاصة المستعملة بها الألفاظ في الأقاليم المختلفة.
3 - ولكل مؤلف طريقته الخاصة في الكتابة، ولهذا يجب أن ندرس لغة المؤلف، والمعنى الخاص الذي استعمل به الكلمات ...
4 – ويختلف معنى التعبير بحسب الموضع الذي يوجد فيه، ولهذا ينبغي ألاّ تفسر كل كلمة وكل جملة، مفردة بل بحسب المعنى العام (السياق)، وقاعدة السياق هذه قاعدة أساسية في التفسير، وتقضي بأنه قبل أن أستعمل جملة من نص أن أقرأ النص كله أولاً ...
وهذه القواعد لو طبقت بدقة تؤلف منهجاً دقيقاً في التفسير، لا يكاد يترك مجالاً للخطأ))) (1).
فمن التفسير المتعسف الذي سلكه الكاتب -هداه الله وأصلح قلبه- في هذا الكتاب الذي بين أيدينا -على سبيل المثال-، أنّ الكاتب لما ذكر حديث أبي هريرة1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - في تقبيل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للحسن بن علي بن أبي طالب 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -؛ وفيه: (فَجَلَسَ –يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - - بِفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ رضي الله عنها؛ فَقَالَ: أَثَمَّ لُكَعُ؟، أَثَمَّ لُكَعُ؟، فَحَبَسَتْهُ شَيْئًا، فَظَنَنْتُ أَنَّهَا تُلْبِسُهُ سِخَابًا أَوْ تُغَسِّلُهُ، فَجَاءَ يَشْتَدُّ حَتَّى عَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ؛ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَحْبِبْهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ) (2)، ففي هذا الحديث: يسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن سبطه وريحانته الحسن1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - يريد أنْ تخرجه له أمُّهُ فيراه ويقبِّله، فيسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيقول: (أَ ثَمَّ) فهذه همزة استفهام، وكلمة (ثَمَّ) بمعنى: هنالك أو هناك (3)، وأما (لُكَع): فهي كلمة تقال في مثل هذا الموضع للصغير تدليلاً ورحمة، يقول الهروي: (هو الصغير في لغة بني تميم، .. وقال ذلك للحسن على سبيل الإشفاق والرحمة) (4)، فصار معنى الجملة بكل بساطة: هل الحسن موجود هناك في البيت؟.
فجاءنا "ابن قرناس" هنا ليستشكل شيئاً في الحديث فأتى بضُحْكَةٍ تَفْتِقُ الأسارير وتُدْمِعُ العيون؛ فقال: (مَنْ هُوَ لُكَعْ؟، ولماذا أَثِمَ؟، ولا كيف عَرَفَ الرسول بأنه أَثِمَ وهو لم يكشف عن قلبه؟) (5)!.
يا لذكريات هَبَنَّقَةَ (6) وأيام أبي غَبْشَان (7)، عَفَاءً على أخبارهم لقد نُسِيَتْ حتى لا تكادُ تُذْكَر، إلا ما كان من لطافة "ابن قرناسٍ"؛ الذي جَدَّدَ من رُسُومِهِم ما انْدَرَس، وأحيا من ذِكْرِهِمْ ما مَاتَ، فابن قرناس هنا يبدو أنه فهم أنَّ (لُكَع) اسم لشخص وليس وصفاً، وجعل الكلمة من (الإِثْم)، وصار معنى الجملة عنده: وقع في الإثم الشخص المسمى لكع!؛ ففهمها على معنى بعيدٍ لا يدلُّ عليه السياقُ ولا يشيرُ إليه ولو على الاحتمال؛ وذلك أنّ الإِثْمَ بهذا المعنى المزعوم؛ إنما هو: اسم للأفعال المبطئة عن الثواب (8)، ويا بُعْدَ ما بين المعنيين.
وأيضاً فمن الأمثلة على هذا العيب المنهجي، أنّ الكاتب حمل معنىً اصطلاحيّاً يتكرر في كتب الحديث وكتب تراجم رواته، غير أنّ الكاتب حَمَلَه -فيما يظهر- على المعنى العامّي الدارج في بعض البيئات، فقال ذامّاً رواة الحديث النبوي، ومبيّناً مبررات تكذيبه لرواياتهم في السنة: (وهناك من دَلَّسَ على الرسول مع سبق الإصرار والترصد) (9).
والحقيقة أنه لم يفهم معنى الكلمة الاصطلاحية "التدليس"؛ إنما سبق إلى ذهنه معنى الكذب والافتراء فاعتَقَدَهُ وفَرِحَ به، وهي إنما تطلق عند أهل الحديث بمعنى: تحديث الراوي عمن عاصره ولم يلقه؛ أو عن شيخه الذي سمع منه ما لم يسمعه منه بصيغة محتملة، ويكون في الواقع إنما سمعه بواسطة راوٍ آخر عن شيخه، ويفعل ذلك لجملةٍ من الأسباب التي عَذَرَ المحدِّثُون ببعضها وعَتِبُوا على الرواة في بعضها الآخر، ولكن ليس من بين هذه الأسباب الداعية للتدليس: قصد الكذب ونسبة الزور أبداً، فإنّ شيئاً من هذا لم يقع فيه المحدثون؛ إلا عند الكذبة الذين قيّد أهل الحديث أسماءهم وأخبارهم ورواياتهم في كتب مستقلّة.
- - - - -
الحواشي:
1 - العيوب المنهجية في كتابات المستشرق شاخت 49 - 50.
2 - (الحديث والقرآن) 8 - 9، والحديث في صحيح البخاري- طوق النجاة - (3/ 66).
3 - قال صاحب لسان العرب 12/ 79: (و "ثَمَّ" بفتح الثاء: إِشارة إلى المكان؛ قال الله عز وجل "وإِذا رأَيت ثَمَّ رأَيت نَعيماً")، وانظر تفسير ابن كثير 8/ 292.
4 - انظره في: فتح الباري - ابن حجر - (1/ 184).
5 - (الحديث والقرآن) 8 - 9.
6 - بفتح الأول والثاني ثم نون مشدّدة فقاف، واسمه: يزيد بن ثروان، ويقال: ابن مروان، أحد بني قيس ابن ثعلبة، ومن حمقه: أنه جعل في عنقه قلادة من ودع وعظام وخزف، وقال: أخشى أن أضل نفسي؛ ففعلت ذلك لاعرفها به، فحُوِّلت القلادة ذات ليلة من عنقه لعنق أخيه؛ فلما أصبح قال: يا أخي أنت أنا، فمن أنا؟، وأضل بعيراً؛ فجعل ينادى: من وجده فهو له، فقيل له: فلم تنشده؟، قال: فأين حلاوة الوجدان!، وانظر: أخبار الحمقى والمغفلين 1/ 41.
7 - أبو غبشان: بفتح الغين المعجمة -وتضم أيضاً-، وبسكون الباء الموحدة، رجل من خزاعة؛ كان يلي سدانة الكعبة قبل قريش، فاجتمع هو وقصي بن كلاب في شِرب بالطائف، فأسكره قصيٌّ، ثم اشترى منه المفاتيح بزق خمر وأشهد عليه، ودفعها قصي لابنه عبد الدار وأرسله في الحين إلى مكة، ثم أفاق أبو غبشان من سكره وهو أندم من الكسعي، فضرب به المثل في الحمق، وفي الندم وخسارة الصفقة، انظر: زهر الأكم في الأمثال و الحكم 1/ 197، وصبح الأعشى 1/ 409، وأخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي 1/ 42.
8 - وانظر: المفردات في غريب القرآن 1/ 10.
9 - (الحديث والقرآن) 21 - 22.
¥