ثم إنَّ إخبار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالغيب ليس فيه أي معارضة لتفرد الله تعالى بعلم الغيب، وذلك أن الغيب المطلق علمه عنده تقدس وتعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} (8)، وهو مع ذلك يطلع أنبياءه ورسله على بعض ما يشاء من الغيب: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً ? إلا من ارتضى من رسول} (9).
وأما الإشكال الثاني: فلا أدري من أين فهم الكاتب أن سبب إلقاء من أخرج من النار في نهر الحيا هو التنظيف، ثم أليس من عِرَضِ القَفَا، وكَثَافَةِ الفَهْمِ أن يعتقد إنسانٌ أن من ألقي في نار جهنم -التي فضّلت حرارتها على نار الدنيا بسبعين ضعفاً- فخرج منها بعدما احترق؛ ثم هو بعد خروجه منها لا يحتاج إلا إلى أنْ يُلقى في نهر الحيا: لكي يتنظف فقط؟، أهذه عملية ذهنية يمكن أن تجري في عقل إنسان سوي؟.
بطبيعة الحال هم قد احترقوا و احتمشوا حتى صاروا حُمَمَاً كما جاء مصرحاً به في ألفاظ أخرى (10)، فلما أخرجوا من النار احتاجوا إلى أنْ يعاد خَلْقُهُم بعد الاحتراق، فيجعل الله سبب ذلك الخلق الجديد أنهم يُلقون في هذا النَّهر فينبتون -بإذن الله- فيه على الوصف النبوي: (كما تنبت الحبة في جانب السيل)، وبه يعلم جواب الإشكال الآخر، فإنهم وإن كانوا قد خلقوا سابقاً، ولكن دخولهم النار أدى إلى احتراقهم وذهاب خلقهم، فيحتاجون إلى خلق جديد، والله تعالى يخلق عباده في الدنيا خلقاً من بعد خلق كما قال الله تعالى: {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث} (11)، ووقوع ذلك في الدنيا يدل على إمكان وقوعه في الآخرة على الوجه الذي يريده الله: {إنّ ربك فعَّالٌ لما يريد} (12).
والكاتب لم تثبت على هذا المقام قَدَمُهُ، فهو بعد أنْ أثبت أنَّ الإلقاء في نهر الحيا لكي يزول لون السواد عنهم؛ رجع مرة أخرى لينفي أصل وقوع الاسوداد بسبب النار، ليدعي أن المراد بالسواد هو اكفهرار وجوههم لا تغير لونها، وهذا صرف للكلام من حقيقته إلى مجازه بلا مسوِّغ ولا دليل، وحمل الكلام على ظاهر معناه هو المتعين، ولا يفهم العربي من سواد الوجه أصالة إلا تغير لونه، وحمله على غير هذا المعنى يحتاج إلى قرينة.
وأما الإشكال الرابع؛ فغايته أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول إنهم يخلقون بعد خروجهم من النار خلقاً آخر، والكاتب يقول لا يخلقون خلقاً آخر، وقد صَدَقَ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيما قال وأخبر، وكذب المخذول (ابن قرناس) فيما زعم.
- - - - - -
الحواشي:
1 - الحديث في صحيح البخاري 1/ 13: عنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقد تكلم عليه ابن قرناس في كتابه ص 29.
2 - الحديث والقرآن 29 - 31.
3 - الحديث والقرآن 29.
4 - المرجع السابق 30 - 31.
5 - سورة الأنعام آية 91، ومن فوائد كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه الآية ما في الفتاوى 19/ 165؛ إذ قال: (إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يُخَاطِبُهُمْ بِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِ، الْمُتَضَمِّنِ إقْرَارِهِمْ وَاعْتِرَافِهِمْ بِالْمُقَدِّمَاتِ الْبُرْهَانِيَّةِ، الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ، فَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ جَدَلٍ بِالْبُرْهَانِ؛ فَإِنَّ الْجَدَلَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يُسَلِّمَ الْخَصْمُ الْمُقَدِّمَاتِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ مَعْرُوفَةٌ؛ فَإِذَا كَانَتْ بَيِّنَةٌ مَعْرُوفَةٌ كَانَتْ بُرْهَانِيَّةً. وَالْقُرْآنُ لا يُحْتَجُّ فِي مُجَادَلَتِهِ بِمُقَدِّمَةِ لِمُجَرَّدِ تَسْلِيمِ الْخَصْمِ بِهَا -كَمَا هِيَ الطَّرِيقَةُ الْجَدَلِيَّةُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَنْطِقِ وَغَيْرِهِمْ- بَلْ بِالْقَضَايَا وَالْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي تُسَلِّمُهَا النَّاسُ وَهِيَ بُرْهَانِيَّةٌ، و َإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُسَلِّمُهَا وَبَعْضُهُمْ يُنَازِعُ فِيهَا .. كَقَوْلِهِ: "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي به موسى .. ).
6 - إنما قلت في إيمانهم بالقرآن (تجوُّزاً) لأنه لا يستقيم إيمانهم بالقرآن ولا يصح مع إنكار السنة النبوية.
7 - تضمين مع تغيير لكلامٍ نفيسٍ لابن القيم رحمه الله في إثبات نبوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، انظر أصله في كتاب هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى 1/ 185.
8 - سورة الأنعام آية 59.
9 - سورة الجن آية 26 - 27.
10 - جاء في حديث أبي سعيد الخدري 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - في مسند أحمد 18/ 395: (قَالَ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ النَّارِ أَوْ قَالَ قَبْضَتَيْنِ نَاسٌ لَمْ يَعْمَلُوا لِلَّهِ خَيْرًا قَطُّ قَدْ احْتَرَقُوا حَتَّى صَارُوا حُمَمًا).
11 - سورة الزمر آية 6.
12 - سورة هود آية 107.
¥