تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

في هذا الحديث كرر الكاتب الإشكال الذي اعترض به على الحديث السابق ولكن بعبارة أبسط؛ فقال: (كيف عرف الرسول بآخر أهل النار خروجاً منها ودخوله الجنة، فالرسول لا يعلم الغيب .. والجنة والنار لم تخلقا بعد "يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات"، وحتى لو افترضنا أنهما مخلوقتان الآن فقد ولد ومات مليارات البشر .. وسيولد ويموت مليارات أخرى قبل أن تقوم الساعة .. فكيف عرف الرسول آخر أهل النار خروجاً منها، والذي قد لا يكون قد خلق بعد) (2).

وجواب هذه الاعتراض قد سبق ذكره مفصَّلاً في الحديث السابق؛ و خلاصته: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رسول الله، ويطلعه الله تعالى على هذه الأخبار الغيبية من أحوال الناس، كما قال الله تعالى: {قد نبأنا الله من أخباركم} (3)، وقال: {وإذ أسرَّ النبيّ إلى بعض أزواجِهِ حديثاً فلمَّا نَبَّأتْ بِهِ وأَظْهَرَهُ اللهُ عليه عَرَّفَ بَعضَهُ وأعْرَضَ عن بعض فلمَّا نَبَّأهَا بِهِ قالت مَنْ أنْبَأَكَ هذا قال نَبَّأَنِيَ العليمُ الخبيرُ} (4).

وإطلاع الله نبيّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على هذه الأخبار من الغيوب: لحكم ربانية كثيرة يعلمها الله؛ منها: ابتلاء العباد واختبارهم لإظهار من يصدِّقُ رسلَهُ ومن يكذِّبُهُم في أخبارهم، ولا أحد أشد ظلماً ممن كذَّب بالصدق الذي جاءت به الرسل، بأَمَارَاتِهِ التي تلوحُ لكلِّ ذِيْ عَيْنٍ وتَسْطَع: {فمن أظلم ممن كَذَبَ على الله وكَذَّبَ بالصِّدْقِ إذْ جَاءَه أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوَىً للكافرين} (5).

والكاتب –هداه الله وردّه للحق- يظنّ أنّ المراد بالحديث: الإخبار عن عين شخصٍ محدَّدٍ سيكون هو آخر أهل النار خروجاً منها، وأنَّ هذا الشخص المعيَّن يعَْلَمُ أنَّهُ هو نفسُهُ المعنيُّ بالحديث؛ وبالتالي فكيف يكونُ الحديث صحيحاً وهذا الرَّجُلُ بيدِهِ أنْ يُفْسِدَ كل هذا بأنْ يؤمن ويذعن-مثلاً-؛ وبالتالي لا يكونُ هناك دخولٌ للنار أصلاً!.

هذا الفهم –فيما بدا لي- هو الذي سبق إلى ذهن "ابن قرناس"، ولذا فأنت تراه يقول: (فقد ولد ومات مليارات البشر .. وسيولد ويموت مليارات أخرى قبل أن تقوم الساعة .. وكلهم سيكون لديهم الخيار المطلق في عمل ما يشاءون .. ولن يعلم أحد من البشر .. ما مصيرهم إلا يوم الحساب .. وبعد الحساب لا قبله سيعلم كل إنسان مصيره .. ) (6).

والواقع أن الحديث إخبار عن جِنْسٍ لا عَنْ عَينٍ، وشأن اسم الجنس كشأن النكرات: لا يدل على واحد معين (7)، فهو يُبَيِّنُ أنَّهُ سيكون من أجناس الناس جنسٌ هو آخر من يخرج من النار، وآخر من يدخل الجنة، ثم قد يكون هذا الجنس واحد وقد يكون عددهم بالعشرات أو المئات أو ما لا يعلمه إلا الله، وبمقتضى المعلوم من الشريعة بالضرورة فإن هؤلاء الجنس من الناس لا يعلمون في الدنيا ما مصيرهم، وأنهم سيكونون من هؤلاء الذين يدخلون الجنة آخراً، يقول الحافظ ابن حجر: (قال عياض: جاء نحو هذا في آخر من يجوز على الصراط .. ، قال: فيحتمل أنهما اثنان، إما شخصان، وإما نوعان أو جنسان، وعبّر فيه بالواحد عن الجماعة لاشتراكهم في الحكم الذي كان سبب ذلك .. ) (8)، قال الحافظ معلقاً على كلام القاضي عياض: (قلت: وقع عند مسلم من رواية أنس 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - عن ابن مسعود 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - ما يقوِّي الاحتمال الثاني؛ .. وعند الحاكم من طريق مسروق عن ابن مسعود 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - ما يقتضي الجمع) (9).

وحتى لو سلمنا بأنّ المراد شخصاً معيّناً يكون آخر أهل النار خروجاً منها، فإنّ الله تبارك وتعالى قد علم عينه واسمه قطعاً، فإنْ أقررت لي بهذه المقدِّمة: فقد خُصِمْتَ بلا مَنَاص؛ ذلك أنّ الله تبارك وتعالى الذي عَلِمَ هذه الحقيقة وتعيينها لا مانع نقليٌّ ولا عقليٌّ يمنع من أنْ يطلع الله نبيَّه محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على هذا الأمر، لحكمة يريدها، كما أطلعه على القرآن الكريم.

- - - - - -

الحواشي:

1 - صحيح البخاري- طوق النجاة - (8/ 117).

2 - الحديث والقرآن ص 32.

3 - التوبة 94.

4 - سورة التحريم 3.

5 - سورة الزمر آية 32.

6 - الحديث والقرآن 31 - 32.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير