تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأما الحديث الآخر الذي ذكره الكاتب، وهو حديث أبي هريرة 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -: (حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وِعَاءَيْنِ؛ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ)، وقد علَّق عليه بقوله: (فما الحكمة من ذلك الجانب المخفي من الدين، أو الأسرار الخطيرة التي أسرَّها الله لرسوله الذي أسرّها لأبي هريرة دون بقية الناس، وعندما مات دفنت معه، والرواية جاءت تحت باب سماه البخاري "حفظ العلم"، فهل هكذا يحفظ الله العلم؟) (25).

قلت: إنَّ الله تعالى لا يُسأل عما أبداه لخلقه من العلم لِمَ أبداه، ولا عَمَّا شَرَعَ سَتْرَهُ عنهم -لعدم حاجتهم إليه -لِمَ شرع إخفاءه، يقول الله تعالى: (لا يُسألُ عَمَّا يَفْعَلُ وهُمْ يُسألون) (26).

وقد بيَّن تقدَّس وتعالى أنه قد أخفى عن نبيّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سيما بعض أهل النفاق لحكمةٍ بالغةٍ يعلَمُهَا: (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مَرَدُوا على النفاق لا تَعْلَمُهُم نَحْنُ نَعْلَمُهُم) (27)، وقال تعالى: (ولو نشاء لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيْمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ القول والله يعلم أعمالكُمْ) (28).

ولْيَحْمَدِ اللهَ أمثالُ "ابن قرناس"؛ ولْيقطِّعْ ساعاتِهِ شُكراً؛ أنّ الله تقدّس وتعالى قد أخفى هذه الحقيقة النِّفاقِيَّةَ المُسْتَسِرَّةَ في القلوبِ وبين الجوانح -عند البعض- فلم يُطْلِعْ عليها الناس، وإلا فلو أنّ كُلَّ مَنْ أخفى نِفَاقَهُ؛ فَضَحَهُ اللهُ وأظهَرَ مَكْنُونَ قلبه على وجهه وسِيْمَاهُ: لكان الحالُ كما قال الله تعالى: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أُخِذُوا وقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) (29)، وربما لو تمَّ ذلك الإغراء الربّانيّ بالمنافقين: لما رأينا كثيراً من خفافيش النِّفاق الآن وهم يقدحون في الشَّرع، ويهدمون السنة، مُسْتَسِرِّينَ بالأسماء والألقاب المستعارة.

وحديث أبي هريرة 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - هذا الثاني الذي ذكره "الكاتب"؛ مطابق تماماً للتبويب الذي بوَّبه الإمام البخاري عليه "حفظ العلم"؛ وذلك أنّ الحديث دل على أن أبا هريرة 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قد بثَّ أحد هذين الوعاءين، فهذا البثُّ هو عين حفظ العلم -الذي يحتاج الناس إليه في دينهم- من الضياع، وأما الوعاء الآخر فقد كَتَمَهُ حفظاً له أيضاً؛ لأنه مما لا يحتاج الناس إليه في دينهم من أخبار المستقبل.

وفي هذا المعنى يقول الحافظ ابن حجر: (وحمل العلماء الوعاء الذي لم يَبُثَّهُ؛ على الأحاديث التي فيها تبيينُ أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - يكني عن بعضه ولا يصرِّحُ به؛ خوفاً على نفسه منهم، كقوله: "أعوذ بالله من رأس الستين، وإمارة الصبيان"، يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية، لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله دعاء أبي هريرة1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - فمات قبلها بسنة) (30)، قال الحافظ: (وإنما أراد أبو هريرة 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - بقوله: "قطع"؛ أي: قطع أهل الجور رأسه إذا سمعوا عَيْبَهُ لفعلهم، وتضليله لسعيهم، ويؤيد ذلك أنّ الأحاديث المكتوبة لو كانت من الأحكام الشرعية ما وسعه كتمانها، لما ذكره في الحديث الأول من الآية الدالة على ذم من كتم العلم) (31).

وعلى كل حال: فما اعتمد عليه "ابن قرناس" –هدى الله قلبه- في التشكيك في ثبوت هذين الحديثين؛ ليس شيءٌ منه قائمٌ ولا صحيح، وإنما هي أوهامٌ وظنونٌ لا تَصْمُدُ عند التحقيق.

- - - - - -

الحواشي:

1 - (الحديث والقرآن) 36، والحديث في صحيح البخاري- طوق النجاة - (1/ 35).

2 - المصدر السابق 37، والحديث في صحيح البخاري- طوق النجاة - (1/ 35).

3 - المصدر السابق.

4 - (الحديث والقرآن) 37.

5 - سورة الكهف آية 24.

6 - فتح الباري - ابن حجر - (1/ 215).

7 - السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام والرد عليها لعماد الشربيني، ص 593، من النسخة الإلكترونية.

8 - سورة الكهف آية 24.

9 - انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10/ 385 - 386.

10 - قال ابن الجوزي في زاد المسير 5/ 128: (وللمفسرين في معنى الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعنى إذا نسيت الاستثناء، ثم ذكرت فقل إن شاء الله، ولو كان بعد يوم أو شهر أو سنة، قاله سعيد بن جبير والجمهور، والثاني: أن معنى إذا نسيت إذا غضبت، قاله عكرمة، قال ابن الأنباري: وليس ببعيد؛ لأن الغضب ينتج النسيان، والثالث: إذا نسيت الشيء فاذكر الله ليذكرك إياه، حكاه الماوردي).

11 - انظر: زاد المسير لابن الجوزي 5/ 128.

12 - تفسير الطبري - (17/ 645).

13 - تفسير الطبري - (17/ 646).

14 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - (19/ 118).

15 - زاد المسير لابن الجوزي 5/ 128.

16 - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية الأندلسي (1/ 178).

17 - عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني 29/ 144.

18 - سورة الكهف آية 24.

19 - سورة الأعلى آية 6.

20 - سورة القمر آية 2.

21 - سورة البقرة آية 118.

22 - قال صاحب لسان العرب - (1/ 460): (السَّبْسَبُ: الأَرضُ المُسْتَوِية).

23 - قال صاحب لسان العرب - (1/ 747): (نَبَّ التَّيْسُ يَنِبُّ نَبّاً ونَبِيباً ونُباباً ونَبْنَبَ: صاحَ عند الهِيَاجِ).

24 - البيتان للعبد الفقير راقم هذا الردّ.

25 - (الحديث والقرآن) 38.

26 - سورة الأنبياء آية 23.

27 - سورة التوبة آية 101.

28 - سورة محمد آية 30.

29 - سورة الأحزاب آية 60.

30 - فتح الباري - ابن حجر - (1/ 216).

31 - المصدر السابق.

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير