تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

والأولى في معنى الآية –فيما أظنه والعلم عند الله تعالى- أنْ تكون متصلة بمعنى الكلام الذي سيقت فيه في تعليم الاستثناء تحديداً، وأما القول بأنّ في الآية توجيهاً لما يقال عند النسيان مطلقاً فهو قول له حظ من النظر؛ إلا أن فيه فصلاً للجملة من سياقها وهو خلاف الأصل، إضافة على كونه قولاً حكاه الماوردي دون نسبته إلى قائل (15).

وبأيّ وجه من الأقوال قلتَ؛ فإنه لا يدلُّ واحدٌ منها على أنّ الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه؛ عن المعجزة النبوية في حفظ أبي هريرة 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -: حديثٌ باطلٌ؛ لأنه دلّ على طريقةِ علاجٍ للنسيان تخالفُ الطريقة التي أرشدت إليها الآية، ولا قائل بهذا من الفرق المنتسبة للسنة مطلقاً، وجملة القول: أنَّ "ابن قرناس" حمل الآية على أضعف ما قيل في معناها، مما يضعف كل ما بناه على هذا الحمل.

ومما يحسن ذكره هنا فيما يرتبط بنسبة النسيان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قول الإمام ابن عطية الأندلسي: (والصحيح في هذا: أنَّ نِسيَانَ النبي صلى الله عليه وسلم لما أرادَ اللهُ تعالى أنْ يَنْسَاهُ ولم يُرِدْ أنْ يُثْبَتَ قُرآناً جائزٌ؛ فأمَّا النِّسيانُ الذي هو آفَةٌ في البَشَر: فالنبيّ صلى الله عليه وسلم معصومٌ منه قبل التبليغ وبعد التبليغ؛ ما لم يَحْفَظْهُ أَحَدٌ من أصحابِهِ، وأما بعد أنْ يُحْفَظَ فَجَائِزٌ عليه ما يجوزُ على البَشَر، لأنَّه قد بَلَّغَ وأَدَّى الأمانة) (16)، ويقول الإمام العيني: (وقال الجمهور: جاز النسيان عليه أي على النبي صلى الله عليه وسلم فيما ليس طريقه البلاغ والتعليم، بشرط ألا يُقَرَّ عليه، بل لا بدَّ أنْ يُذَكِّرَه ... وأما نسيان ما بَلَّغَهُ -كما في هذا الحديث- فهو جائز بلا خلاف) (17).

السادس: بناء على طريقة "ابن قرناس" في ضرب النصوص بعضها ببعض؛ دون إعمال طرائق الجمع والترجيح المرعية عند أهل العلم؛ فيمكن أن يُقال هنا: أثبت الكاتب النّسيان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من قوله تعالى: (واذكر ربك إذا نسيت) (18)؛ دون التفات إلى معارضة ذلك لقول الله تعالى: (سنقرؤك فلا تنسى) (19)!، ولا شك أنّ الآيتين ليس بينهما تعارض حقيقي، ولكني قصدت بيان فساد طريقة "ابن قرناس" في التعامل مع النصوص عند ظهور تعارضها.

وجملة القول أنَّ حديث أبي هريرة 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - هذا دل على أمرين اثنين –وليس في واحد منهما ما يخالف دلالة القرآن- وهما:

1 - أن الحديث فيه معجزة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ودليل من دلائل نبوته.

2 - أن فيه خصوصية لأبي هريرة 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - في حفظ الحديث النبويّ.

و وقوع المعجزة للأنبياء عموماً؛ ولنبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خاصة متحقق نقلاً كما أخبر به القرآن الكريم في غير ما آية منه، وأيضاً فليس في العقل ما يُحِيْلُهُ لا سيما وفَرْضُ المسألة أنّ المخالف مقرٌّ بصدق النبوات، ومقتضى ذلك أنّ الله تعالى يؤيّد رسله وأنبياءه بما يوجب على الناس تصديقهم والإيمان بهم، من الأدلة والبراهين والمعجزات، وهذا الحديث صوَّر نوعاً من تلك المعجزات فما وجه الإنكار؟.

ومن بديع تشابه الأقوال:

أنك ترى "ابن قرناس" هنا يضع قَدَمَهُ على آثار خُطَى كفار قريش في مجابهة معجزات الرُّسل؛ إذ قالوا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - -فيما أتاهم به من الآيات- إنه ساحر: (وإنْ يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر) (20)، فيجيء "ابن قرناس" ليجعل من الفرضيات المترتبة على القول بصحة الحديث: أنْ يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عنده قدرات سحرية؛ فيقول: (ولو كان الرسول لديه قدرة سحرية يجعل الغير لا ينسون بمجرد غرفة بيديه من الهواء؛ فلماذا ينسى هو؟)!!.

وصدق الله جل وعلا: (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم) (21)، وهل معجزات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تشابه أسحار المشعبذين؟، وإنما حال الكاتب كما قيل:

وأرَاكَ قَدْ عَمِيَتْ عُيُونُكَ لا تَرَى - - دَرْبَ الهدايةِ وَهْيَ رَحْبٌ سَبْسَبُ (22)

وعلى الغِوايَةِ واعْوِجَاجِ سَبِيلِهَا - - تَيْسٌ يَنِبُّ (23) وثَعْلَبٌ يَتَقَلَّبُ (24)

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير