وذكر الشيخ أن لمسلم كلاما قد يفهم منه أنه يكتفي بالمعاصرة مجردة، وأجاب عن ذلك بأن هذا منه كلام مجمل يقضي عليه ما فصله في مكان آخر وقد سبق ذكره.
الدليل الثاني في رأي الشيخ: هو تطبيقات مسلم رحمه الله، فقد اجتنب مسلم إخراج حديث الحسن عن عمران بن حصين مع أنهما متعاصرين لما يزيد عن ثلاثين عاما.
ثم نقل عن ابن رجب في مكان آخر: أن مسلما قال:" وأبو صالح باذام قد اتقى الناس حديثه، ولا يثبت له سماع من ابن عباس". مع أن باذام قد عاصر ابن عباس قطعا.
قال الشيخ: ليتأكد لديك أن مسلما كان يراعي القرائن، وأنه لم يكن يكتفي بمطلق المعاصرة.
ثم احتج بالقصة المشهورة التي سأل فيها مسلم البخاري عن علة حديث كفارة المجلس فأعله البخاري رحمه الله بعلتين منها أن عقبة لا يعلم له سماع من سهيل، فلم يكن من مسلم إلا أن يقر بالأستاذية للبخاري وهذا منه إقرار بعدم سماع عقبة من سهيل، ومن ثم فمسلم مراع للقرائن الزائدة على مطلق المعاصرة.
أما الدليل الثالث: فنص عالمين من علماء الحديث وحفاظه على مراعاة مسلم للقرائن، ألا وهما العلائي وابن القطان الفاسي، فالأول نص على قرينة تباعد البلدان، والثاني على إدخال الوسائط.
أما الدليل الرابع في رأي الشيخ: هو مكانة الإمام مسلم وتقدمه في فنون الحديث ونقد السنة، هذه المكانة العلية التي يمتنع معها أن لا يراعي مثل هذا الإمام المبرز مثل هذه القرائن.
هذه كل الأدلة التي احتج بها الشيخ حاتم في كتابه، ورغم أنها لا تصب كلها في صالح قرينة تباعد البلدان إلا أنها تدل دلالة عامة على مراعاة مسلم للقرائن المبعدة لاحتمال السماع، وقرينة تباعد البلدان لا شك داخلة فيها، وستأتي مناقشة بعض هذه الأدلة بإذن الله.
أما الفريق الثاني من العلماء والباحثين فيرون أن مسلما لم يزد على المعاصرة المجردة شرطا آخر، بل احتمال اللقاء وإمكانه إنما هو ما يتيحه الإدراك الزمني لراو ما روى شيئا عن آخر مع عدم الأدلة المنافية لهذا الاحتمال، و تباعد الأمكنة ليس قرينة تنافي هذا الاحتمال عند مسلم رحمه الله، واحتجوا لفهمهم هذا بأدلة منها:
كلام مسلم في المقدمة: فبعد أن رأى الشيخ خالد الدريس: أن في فهم العلائي والصنعاني لكلام مسلم نظرا استدل لذلك بالتالي:
- ذكر تباعد البلدان أو تقاربها غير منصوص عليه في كلام مسلم البتة.
- إمكان اللقاء المقصود في كلام مسلم إنما هو ثبوت المعاصرة بدليل قوله: (وجائز ممكن له لقاؤه والسماع منه، لكونهما جميعا في عصر واحد)، وقوله (مسلم) بعد أن ذكر أسانيد لم يثبت فيها لقاء أو سماع وهي على رأي الأئمة صحيحة: (إذ السماع لكل واحد منهم ممكن من صاحبه غير مستنكر، لكونهم كانوا جميعا في العصر الذي اتفقوا فيه).
-فإن شكك مشكك في هذا الفهم فإن صنيع مسلم في صحيحه هو الفيصل في الأمر، وقد وجدناه احتج بأحاديث لرواة متعاصرين لم تكن بلدانهم متحدة، منها حديث حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة في فضل صيام الشهر المحرم.
وحميد بصري وأبو هريرة مدني وقد نص مسلم أنه لم يثبت بينهما لقاء.
واحتج بحديث عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة في فضل صيام يوم عرفة، وعبد الله بصري وأبو قتادة مدني وقد شكك البخاري في سماع عبد الله من أبي قتادة.
واحتج أيضا بحديث أبي أيوب المراغي عن عبد الله بن عمرو في المواقيت، مع أن أبا أيوب بصري وعبد الله بن عمرو مصري ثم طائفي، وقد تشكك المنذري في سماع المراغي منه.
و هذا الدليل – أعني استقراء صنيع مسلم من خلال صحيحه - هو أقوى الأدلة في رأي الشيخ خالد لكونه تفسيرا عمليا لقوله، ثم عقب قائلا: "واحتجاج مسلم بهذه الأحاديث مما يدل على أن المقصود بإمكان اللقاء ليس تقارب البلاد، وإنما أن يكون اللقاء محتملا غير مستبعد".
- قال السخاوي في شرح الألفية 1/ 287: "على أن مسلما موافق للجماعة فيما إذا عرف استحالة لقاء التابعي لذلك الصحابي في الحكم على ذلك بالانقطاع، وحينئذ فاكتفاؤه بالمعاصرة إنما هو فيما يمكن فيه اللقاء".
فانظر إلى تعبيره بلفظ الاستحالة، وتباعد البلدان لا يلزم منه استحالة اللقاء كما هو ظاهر، والله أعلم.
¥