- وعليه فإن مقصوده عندهم بالدلالة البينة هي تلك الأدلة التي اتضح من خلالها عدم حصول اللقاء والسماع، وأن تباعد البلدان ليس دلالة بينة تنافي هذا الاحتمال، فالسلف كانوا معرفين بالرحلة في طلب العلم والحج للقاء العلماء والمحدثين، كما أن استعمال العنعنة من طرف غير المدلس يرجح جانب اللقاء والسماع، إذ غير المدلس لا يستعمل ألفاظا تحتمل السماع فيما لم يسمع وإلا كان مدلسا، وما دامت العنعنة تحتمل السماع لم يجز له أن يستعملها في ما لم يسمع.
والخلاصة أن المقصود بالدلالة البينة في كلام مسلم هي تلك التي لا يبقى معها أي احتمال للسماع كإخبار الرواي بأنه لم يسمع ولا وقع بينه وبين من روى عنه كتاب أو غير ذلك من الأدلة القاطعة لاحتمال السماع، والله أعلم.
هذا الفهم هو ما ذهب إليه كثير من العلماء والحفاظ كابن الصلاح والحافظ رشيد الدين العطار وابن رجب والعراقي والحافظ ابن حجر والمعلمي.
قال ابن الصلاح في صيانة الصحيح ص84: عند الحديث عن أثر رواه ميمون بن أبي شبيب عن عائشة: "وعند مسلم التعاصر مع إمكان التلاقي كاف في ثبوت الإدراك، فلو ورد عن ميمون أنه قال: لم ألق عائشة، أو نحو هذا لاستقام لأبي داود الجزم بعدم إدراكه".
مع العلم أن عائشة مدنية وميمون كوفي، وفي كلام ابن الصلاح هذا يتضح جليا أن الدلالة البينة عند مسلم هي الأدلة التي لا تتيح أي احتمال للقاء والسماع، بخلاف تباعد البلدان فإنه لا منافاة بينه وبين احتمال السماع عنده كما سبق ذكره، هذا وقد عارض ابن القيم هذا الاستدلال وقال أن الأئمة يراعون أمورا أخرى وراء المعاصرة كما في الجواهر والدرر للسخاوي، ولذا جعلت ابن القيم مع أصحاب المذهب الأول والله تعالى أعلم.
وقال الحافظ العطار في الفوائد المجموعة ص 352: " وقال ابن أبي حاتم: " سمعت أبي يقول: مجاهد عن عائشة مرسل".
والعذر لمسلم ما بيناه في غير موضع من هذا الكتاب، وهو اعتبار التعاصر وجواز السماع وإمكانه، ولا خلاف في إدراك مجاهد لعائشة ومعاصرته لها".
ومجاهد مكي وعائشة مدنية.
وقال في رواية أبي بكر بن حزم عن ابن عباس ص 361: " أما روايته عن ابن عباس غير معروفة، لكنها جائزة ممكنة، لأن ابن عباس توفي سنة 68 وقيل 69 وقيل سبعين، فإدراكه معلوم غير مشكوك فيه، وسماعه منه جائز ممكن، فهذا محمول على الاتصال عند مسلم حتى يقوم دليل على أنه لم يسمع منه" [3] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=41#_ftn3).
أما المعلمي فكلامه واضح ومبسوط في محاله حتى أنه قسم درجات إمكان اللقاء إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما يقوى فيه جانب السماع واللقاء، كأن يصرح بالسماع أو يعلم اللقاء، ويدخل فيه ما قوته القرائن: كأن يعاصره لمدة طويلة وهما من نفس البلد.
القسم الثاني: ما يتساوي فيه جانب اللقاء وعدمه، ويندرج تحت هذا القسم عند مسلم الرواة الذين رووا عن بعضهم مع تباعد بلدانهم.
الثالث: ما يقوى فيه جانب عدم اللقاء.
فالقسمان الأولان هما اللذان يحتج بهما مسلم، وإنما يمشي مسلم القسم الثاني لظهور الصيغة وانتفاء التدليس، وعلل المعلمي ذلك في موضع آخر أن السلف كانوا يحجون للقاء، فهذه كلها مرجحات لكفة إمكان اللقاء. انظر رسالة خالد الدريس، اشتراط اللقيا: ص 323 - 324.
ويبدو أنه رأي الشيخ مشهور سلمان في كتابه الإمام مسلم ومنهجه في الصحيح 2/ 522، حيث يقول: (ومن الجدير بالذكر أن قول مسلم ليس على إطلاقه، فهو يبحث عن اللقاء عندما تتوفر له قرينة على انتفاءه، لأنه يعتبر المعاصرة مع إمكان اللقاء لا مع القرينة على نفي اللقاء).
على أني متردد في المقصود من تعبيره بالقرائن المنافية هل تدخل فيها القرائن التي تضعف احتمال اللقاء ولا تنافيه من كل وجه أم لا؟، والظاهر هو الثاني، لسببين:
الأول: اختياره وصف القرائن بأنها منافية للسماع.
الثاني: قوله ص 524: (أنه – مسلم- لا يشترط في الإسناد المعنعن إلا المعاصرة فقط).
وقوله أيضا: (قال العلماء إن مذهب مسلم متساهل، إذ كيف تحمل عنعنة الرواة غير المدلسين على السماع بمجرد معاصرتهم لبعضهم البعض لاحتمال أنهم سمعوا من بعضهم).
هذا ما أردت تلخيصه وإثباته من أدلة الفريقين، أرجو أن أكون وفقت لذلك.
فصل:
¥