وأما قوله بأنه لا يعرف أن عثمان علم الناس القرآن، فهذا مبلغ علمه. والأمر بخلاف ظنه. فمن روى حديث "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" لم يشغله شيء عن تعليم الناس للقرآن. حتى في أيام خلافته، فإنه بقي مواظباً على إقراء الناس للقرآن. وقد أن انتهى من جمع القرآن وتدوينه في المصاحف التي أرسلها للأمصار، فإنه أرسل مع كل مصحف مقرئ متقن يعلم الناس قراءة هذا المصحف. فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن شهاب مع الشامي، وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي، وعامر بن عبد القيس مع البصري. ومن البديهي أن يكون قد قرء القرآن لكل مقرئ من هؤلاء، وسمع قراءتهم، وأجازهم.
وأما أن العباس البيروتي لم يذكر عمّن أخذ ابن عامر القراءة، فغيره قد ذكر ذلك مفصلاً، واشتهر ذلك شهرة متواترة عند أهل الشام. وقد ذكر مقرئ الشام الثقة هشام بن عمار (وهو من رواة قراءة ابن عامر) أن الوليد بن مسلم (ثقة فقيه) حدثه عن يحيى بن الحارث (وهو من أكبر تلامذة ابن عامر) عن ابن عامر نفسه، أنه قرأ على عثمان رضي الله عنه.
لكن هشام ذكر أن خبر عراك أصح، والظاهر أن الوليد قد اختصر الواسطة. لكنه ذكرها في خبر آخر، ولله الحمد. إذ قال علي بن موسى حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل (ثقة) حدثنا الوليد بن مسلم (ثقة) عن يحيى بن الحارث (ثقة) أنه: قرأ على ابن عامر، وأنه قرأ على المغيرة بن أبي شهاب، وأن المغيرة قرأ على عثمان.
قال الذهبي: «قد ذكرنا رواية هشام عن الوليد. وفيها إسقاط المغيرة، وأن هشاما ضعَّف ذلك ووهّاه».
فلم يتفرد عراك بذكر المغيرة كما وهم ابن جرير.
ثم العجب من ابن جرير، إن لم يكن ابن عامر قد أخذ قراءته من المغيرة، فممّن إذاً؟ وكان ابن عامر مقرئ الشام وإمام مسجدها!!. والشام يومئذ فيها من الصحابة الخلق الكثير، ويأتيها – وهي عاصمة الخلافة – الناس من كل صوب!. وما فيهم أحد طعن بقراءة ابن عامر. أفما يكفي هذا لصحتها وتواترها عند ابن جرير؟!
وأما أسانيد القراءة فمعلومة عند أهل المعرفة.
قال الحافظ أبو عمرو عن ابن عامر: «أخذ القراءة عرضا عن أبي الدرداء، وعن المغيرة بن أبي شهاب صاحب عثمان بن عفان. وقيل عرض على عثمان نفسه».
قال ابن الجزري في الغاية: «وقد ورد في إسناده تسعة أقوال. أصحها: أنه قرأ على المغيرة. الثاني: أنه قرأ على أبي الدرداء، وهو غير بعيد فقد أثبته الحافظ أبو عمرو الداني. الثالث: أنه قرأ على فضالة بن عبيد، وهو جيد. الرابع: أنه سمع قراءة عثمان، وهو محتمل. الخامس: أنه قرأ عليه بعض القرآن، ويمكن (وقد أنكره الذهبي). السادس: أنه قرأ على واثلة بن الأسقع، ولا يمتنع. السابع: أنه قرأ على عثمان جميع القرآن، وهو بعيد ولا يثبت. الثامن: أنه قرأ على معاوية، ولا يصح. التاسع: أنه قرأ على معاذ وهو (واه). وأما قول من قال أنه "لا يدري على من قرأ" فإن ذلك قول ساقط أقل من أنه ينتدب للرد عليه. وقد استبعد أبو عبد الله الحافظ قراءته على أبي الدرداء!، ولا أعلم لاستبعاده وجهاً، ولا سيما وقد قطع به غير واحد من الأئمة واعتمده دون غيره الحافظ أبو عمرو الداني وناهيك به.
وأما طعن ابن جرير فيه، فهو مما عد من سقطات ابن جرير حتى قال السخاوي: قال لي شيخنا أبو القاسم الشاطبي: إياك وطعن الطبري على ابن عامر!.
وأما قول أبي طاهر بن أبي هاشم في ذلك، فلا يلتفت إليه. وما نقل عن ابن مجاهد في ذلك، فغير صحيح. بل قول ابن مجاهد (يعني عن ابن عامر): "وعلى قراءته أهل الشام والجزيرة"، أعظم دليل على قوتها. وكيف يسوغ أن يتصور قراءة لا أصل لها، ويجمع الناس وأهل العلم من الصدر الأول وإلى آخر وقت على قبولها وتلاوتها والصلاة بها وتلقينها، مع شدة مؤاخذتهم في السير؟! ولا زال أهل الشام قاطبة على قراءة ابن عامر: تلاوةً وصلاةً وتلقيناً إلى قريب الخمسمئة».
وقال أبو علي الأهوازي: «كان عبد الله بن عامر إماما عالما، ثقة فيما أتاه، حافظا لما رواه، متقناً لما وعاه، عارفاً فهماً قيماً فيما جاء به، صادقاً فيما نقله من أفاضل المسلمين وخيار التابعين وأجلة الراوين. لا يتهم في دينه، ولا يشك في يقينه، ولا يرتاب في أمانته، ولا يطعن عليه في روايته. صحيح نقله، فصيح قوله، عالياً في قدره، مصيباً في أمره، مشهوراً في علمه، مرجوعاً إلى فهمه. لم يتعدّ فيما ذهب إليه الأثر، ولم يقل قولاً يخالف فيه الخبر».
قال يحيى بن الحارث: «وكان رئيس الجامع (الأموي في دمشق) لا يرى فيه بدعة إلا غيرها».
روى القراءة عنه عرضاً: يحيى بن الحارث الذماري (وهو الذي خلفه في القيام بها)، وأخوه عبد الرحمن بن عامر، وإسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر (وهو من أقرانه)، وربيعة بن يزيد، وجعفر بن ربيعة، وسعيد بن عبد العزيز، وخلاد بن يزيد بن صبيح المري، وغيرهم. ورواته هشام وابن ذكوان.
http://www.ghrib.net/vb/showthread.php?t=18519
والسلام عليكم
¥