لاشك أن القرآن الكريم كلام الله سبحانه وتعالى، وكلام الله سبحانه وتعالى ليس من جنس كلام البشر والخلاق لاتدرك كنه ذات الله جل جلاله إلا بما عرّفهم الله سبحانه وتعالى، والقرآن الكريم نزّله الله سبحانه وتعالى عدّة تنزلات بعدّة صور منها إنزال في اللوح المحفوظ ودليله قوله سبحانه وتعالى (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (البروج21:22)
وهو مكتوب في هذا اللوح المحفوظ باللغة العربية لكن بصورة لا يعلمها إلا من أظهره الله تعالى عليه قال تعالى: (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة:79) وهذه الصورة غير التي يتصورها الناس في كتابتهم وقد يسّر الله سبحانه وتعالى لنا في هذا العصر أمورا تقرّب هذا الفهم؛
ولتقريب هذه الصورة ننظر إلى القرص المضغوط أو ال dvd حيث نستطيع أن ننسخ عليه مكتبات تحوي آلاف المجلدات المكتوبة باللغة العربية. لكن لا يستطيع أحد أن يقرأ منها حرفا إلا بوساطة الحاسوب ولله سبحانه وتعالى المثل الأعلى.
والإنزال الثاني: ورد عن ابن عباس حينما سئل عن تفسير قوله سبحانه وتعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر:1) والسؤال؛ لم قال الله سبحانه وتعالى أنزلناه والقرآن تنزل على مراحل. قال سبحانه وتعالى:
(الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ) (آل عمران1 - 3)
والتنزّل الثالث على قلب النبي صلى الله عليه وسلّم. قال سبحانه وتعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (البقرة:97) (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (الشعراء193 - 194) وهذا التنزّل أيضا روحاني ليس على المعهود من كلام البشر، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلّم يعاني من التنزّل شدّة وكان جبينه صلى الله عليه وسلم يتفصّد عرقا في الليلة شديدة البرد عند نزول الوحي، ومن أحب أن يتوسّع في هذا الباب ينظر تفسير قوله سبحانه وتعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (المزمل:5) والآثار الواردة فيها.
وهناك عدد من الآراء في تلقي جبريل عليه السلام القرآن أهو من الله سبحانه وتعالى مباشرة حيث يوحي له الله سبحانه وتعالى ما يشاء من أمره ثم يتنزّل به على قلب النبي صلى الله عليه وسلّم، أم أن الحفظة سلام الله عليهم هم الذين فرّقوا القرآن (وفق إرادة الله سبحانه وتعالى) على جبريل عليه السلام فتنزّل به على قلب النبي صلى الله عليه وسلّم.
قال تعالى: (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً) (الاسراء:106)
وهذا كلّه لا يعني بحال من الأحوال أن جبريل عليه السلام لم يقرأ القرآن الكريم بالصوت، يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) (القيامة:18) وقد ورد من الأثار إن جبريل عليه السلام كان يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلّم في كل عام مرّة إلا في العام الذي انتقل فيه صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى عارضه فيه مرتين ... وهناك العديد من الأدلة في السيرة النبوية أيضا.
وقراءتنا التي نقرؤها بالسند للنبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام عن ربّ العزة الله جل جلاله لا تعني بحال أن كلام الله سبحانه وتعالى بصوت. أو أن يكون كلامه جل جلاله كالصوت الذي نقرأ به القرآن. وفي نفس الوقت لا نخرج بالتزامنا بقواعد التجويد وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن عن مراد الله تعالى وعن كلامه.
فكلامنا وصوتنا الذي نقرأ به القرآن مخلوق والمصحف الذي نكتبه بأيدينا مخلوق أما كلام الله سبحانه وتعالى وجل جلاله ليس بمخلوق؛ فنقول لقارئ القرآن إنه يقرأ كلام الله سبحانه وتعالى.
والتنزّل الروحي للقرآن الكريم هو أعظم وأجلّ شأنا من الكلام المقروء والخط المرسوم.
فكلنا يقرأ قول الله سبحانه وتعالى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً َ) (الرعد:31) والجواب هو هذا القرآن. فأين تحققنا بهذه الآية الكريمة
ونقرأ أيضا قول الله تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر:21) وليس المقصود بنزول القرآن على أي جبل بالصورة المكتوبة أو المقروءة، فهذه الجبال تحمل ملايين النسخ منها فما بالها لا تهتز قيد أُنمُلة.
أسأل الله سبحانه وتعالى بكلماته التامة أن يغمسني في بحار علمه، ويجعلني من ورثة كتابه حتى لا أرى ولا أسمع ولا أتكلّم إلا بما يحب ويرضى، ويجعلني مشكاة لنوره، ورفيقا لنبيه صلى الله عليه وسلّم.
هذا ما وسعني أن أكتبه على عجالة، سائلا الله سبحانه وتعالى السداد والتوفيق، وصل اللهم وسلّم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك وحبيبك وعلى آله الطاهرين وصحابته المكرمين ومن تبعهم بإحسان واهتدى بهديهم إلى يوم الدين
¥