((وأما قوله: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}: قال أبو بكر [الجصاص]: قد اقتضت الآية إباحة الأكل والشرب والجماع إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، روي أن رجالا منهم حملوا ذلك على حقيقة الخيط الأبيض والأسود وتبين أحدهما من الآخر، منهم عدي بن حاتم؛ حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا حصين بن نمير قال وحدثنا أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا ابن إدريس المعني عن حصين عن الشعبي عن {عدي بن حاتم قال: لما نزلت هذه الآية: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} قال: أخذت عقالا أبيض وعقالا أسود فوضعتهما تحت وسادتي، فنظرت فلم أتبين، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: إن وسادك إذا لعريض طويل إنما هو الليل والنهار}. قال عثمان: إنما هو سواد الليل وبياض النهار ".
قال: وحدثنا أبو محمد جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد اليماني قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا ابن أبي مريم عن أبي غسان محمد بن مطرف قال: أخبرنا أبو حازم عن سهل بن سعد قال: لما نزل قوله: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} ولم ينزل {من الفجر} قال: فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له، فأنزل الله بعد ذلك: {من الفجر
} فعلموا أنه إنما يعني بذلك الليل والنهار.
قال أبو بكر [الجصاص]: إذا كان قوله {من الفجر} مبينا فيه فلا إلباس على أحد في أنه لم يرد به حقيقة الخيط، لقوله: {من الفجر}، ويشبه أن يكون إنما اشتبه على عدي وغيره ممن حمل اللفظ على حقيقته قبل نزول قوله {من الفجر}، وذلك لأن الخيط اسم للخيط المعروف حقيقة، وهو مجاز واستعارة في سواد الليل وبياض النهار، وجائز أن يكون ذلك قد كان شائعا في لغة قريش ومن خوطبوا به ممن كان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الآية، وأن عدي بن حاتم ومن أشكل عليه ذلك لم يكونوا عرفوا هذه اللغة؛ لأنه ليس كل العرب تعرف سائر لغاتها.
وجائز مع ذلك أن يكونوا عرفوا ذلك اسما للخيط حقيقة ولبياض النهار وسواد الليل مجازا، ولكنهم حملوا اللفظ على الحقيقة، فلما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بمراد الله تعالى منه، وأنزل الله تعالى بعد ذلك: {من الفجر} فزال الاحتمال وصار المفهوم من اللفظ سواد الليل وبياض النهار، وقد كان ذلك اسما لسواد الليل وبياض النهار في الجاهلية، قبل الإسلام مشهورا ذلك عندهم؛ قال أبو داود الإيادي: ولما أضاءت لنا ظلمة ولاح من الصبح خيط أنارا، وقال آخر في الخيط الأسود: قد كاد يبدو أو بدت تباشره وسدف الخيط البهيم ساتره؛ فقد كان ذلك مشهورا في اللسان قبل نزول القرآن به، وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: الخيط الأبيض هو الصبح والخيط الأسود الليل؛ قال: والخيط هو اللون)). انتهى، من كلام الجصاص
* * *
و عليه، فالثابت بالحديث الصحيح المتفق عليه أن الصحابي عدي بن حاتم إنما حمل اللفظ على حقيقته قبل نزول قوله قوله تعالى: {من الفجر}، وذلك لأن الخيط اسم للخيط المعروف حقيقة، وهو مجاز واستعارة في سواد الليل وبياض النهار
و أنهم سألوا النبي صلى الله عليه و سلم عن المراد بقوله تعالى هذا؛ فأخبرهم به؛ أخرج البخاري:
4510 - (حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن مطرف عن الشعبى عن عدى بن حاتم - رضى الله عنه - قال قلت يا رسول الله ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود أهما الخيطان قال «إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين». ثم قال «لا بل هو سواد الليل وبياض النهار»). أهـ
* * *
و الغرض: أنه لا يمتنع في شأن الصحابة رضوان الله عليهم أن يفهم البعض منهم ما هو غير مُرادٍ بآية من القرآن، قبل نزول بيانها
و لكن المتنع - في شأن الصحابة - أن يقولوا في كتاب الله الخطأ المحض ويمسك الباقون عن الصواب فلا يتكلمون به، والمحظور إنما هو خلو عصرهم عن ناطقٍٍ بالصواب، من النبي صلى الله عليه و سلم في حياته، أو مِن بقية الصحابة بعد وفاته.
و هذا مُستفادٌ مما ذكره ابن القيم في " إعلام الموقعين "
¥