"البَخْرُ فِعْلُ البُخارِ، بَخَرَتِ القِدْرُ، كمَنَعَ، وبالتحريكِ النَّتْنُ في الفَمِ وغيرِهِ، بَخِرَ، كفَرِحَ، فهو أبْخَرُ، وأبْخَرَهُ الشيءُ، وكُلُّ رائِحَةٍ ساطِعَةٍ بَخَرٌ. وكُلُّ دُخانٍ من حارٍّ بُخارٌ. القاموس المحيط - (ج 1 / ص 352)
"قال: كان يَصَعَدُ بُخَارٌ من المَاءِ إلى السَّماءِ فاستَصْبَر فعادَ صَبِيرا فذلك قوله [ثم استَوى إلى السَّماءِ وهي دُخَانٌ] "النهاية في غريب الأثر - (ج 3 / ص 9)
وهل فسر أحد الدخان هنا بما يصعد من دخن النار؟
لذا أخي الكريم لا يجوز أن تجعل المشهور بين الناس من معان هو المقصود. بل إن القران نزل بلسان العرب. فكل ما يستخدمه العرب في لسانهم يجوز التفسير به إن كان مناسبا.
قرأت في تفسير الجواهر للشيخ طنطاوي جوهري (ت: 1358=1940م): أن الدخان هو البخار .. وأن السموات والأرض مخلوقة من البخار الذي هو الدخان ...
وعلى نحو قوله اعترض المعترضون .. أليس الشيخ طنطاوي جوهري رحمه من أكثر المفسرين مغالاة في هذا الجانب؟.
وها نحن الآن نعود إلى المربع الأول .. ولكن مع زيادة تفصيل قدرها الله بسبب من التأمل في الآثار الكونية والقرآنية والنبوية.
وأحاول إعادة النظر من جديد ..
المعنى الأول للدخان هو المستصحب للهيب .. أياً كان دخان ماء أو دخان جدب أو دخان نار .. وأرجع إليه قوله تعالى: (يوم تأتي السماء بدخان مبين) ..
والذي أورد البخار معنىً للدخان ربطه بالحرارة لزوماً ..
ولم يذكره ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" والراغب في "مفردات القرآن" .. مادة: (دخن) .. لم يذكرا البخار بلفظه ولم يذكراً ماء ولا بخار ماء.
والدلالة اللغوية وحدها هنا لا تغني شيئاً كثيراً لأنها محتملة جداً ..
ولعل هذا النقل عن ابن جرير يزيد الأمر وضوحاً ..
روى ابن جرير عن السديّ، قال: استوى إلى السماء وهي دخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ففتقها، فجعلها سبع سموات في يومين، في الخميس والجمعة. وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض".
فهو نص - على ما فيه من عموم وشك- على أن الدخان كان من تنفس الماء، وهذا أول ربط مأثور (على التوسع في كلمة مأثور) بين الدخان والماء.
وعليه يكون ترتيب آماد الخلق بحسب رواية السُّدّيّ الذي لا يحتج به في التفسير:
ماء .. ثم تنفس الماء .. ثم دخان .. ثم ( ... ) .. ثم خلق الأرض والسماء (وهي دخان) .. ثم بناء السموات السبع العلى من الدخان ..
هو نص عام لأنه لم يذكر أي ماء ذلك الذي تبخر منه فلعله ماء تصاعد من الأرض التي خلقها الله في يومين .. وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام، وهو يذكر بخار ذلك الماء الدخاني والسماء مخلوقة، وهو مشكوك فيه لأنه من رواية السديّ.
ويجوز مع ذلك أن نتفكر ونمعن في التفكر وننهل من الأجر ونعل من الحسنات .. في وصل المعلومات بما انقطع من المجهولات .. ونقول: ما الذي بخّر الماء إلى دخان (أقصد ما السبب الكوني) .. وما السبب الكوني الذي حول الدخان إلى السموات والأرض (الكون المشهود: الكرة الكونية التي سقفها العرش) ..
والذي يصر عليه المعارضون أن الانفجار العظيم: ( ... ) أكذوبة العصر أو شيء نحوها .. ويجعلونه نقيضاً لبدء الخلق من الماء .. وليس هو بنقيض .. بل هو جزء من أطوار الخلق البديع .. ومرحلة من مراحل الخلق اللا حقة على خلق الماء ..
...
وبالنسبة للحديث الذي ساقه الأخ البيراوي آنفاً فقد سمعت الدكتور النجار يقول في بحث له يصف بنية الكون في حالته الحاضرة لا تاريخه: إن الأرض هي مركز الكون، وأن السموات محيطة بها .. أنه أخذ هذا من البينية المذكورة في قوله: (وما بينهما) .. ومن قوله (أقطار السموات والأرض) .. وعارضه علماء غربيون كثيرون.
لعل هذه النظرة إلى الكون تفسر لنا الحديث: ما السموات والأرض إلى الكرسي كحلقة في فلاة إلخ.
فالأرض هي المركز مركز الكرة السماوية، وهناك آثار تساند ذلك، وتفسير لابن تيمية، وهي كحلقة في فلاة بالنسبة إلى السموات (الكرة الهائلة التي مركزها الأرض) وأن السموات والأرض إلى الكرسي الذي وسع السموات والأرض والذي هو فوقها ومحيط بها .. كحلقة في فلاة .. وأن الكرسي إلى العرش كحلقة في فلاة ..
¥