إذا عُلِمَ ذلك فإن هذه الأحرف المقطعة في سور القرآن ليست هي الحروف النحوية، بل هي الحروف الهجائية، التي يتكون منها الكلم، وهي داخلة في معنى الحرف عند العرب الذين نزل عليهم القرآن، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (ألم) حرف، ولكن ألف حرفٌ، ولام حرفٌ، وميم حرفٌ" (27).
إذا ثبت ما سبق فهل المراد من نطقها: الحرفُ نفسه المدلول عليه باسمه، أو المراد اسم الحرف.
وتوضيح ذلك: هل المراد عند قراءة: (ألم) فتقول: (ألف لام ميم) أنك تقصد هذه الأسماء فكأنك تقول: أنا أنطق باسم الحرف (أ) وباسم الحرف (ل) وباسم الحرف (م)، أو أن المراد من النطق أصلاً هو هذه الحروف وإنما نُطق بأسمائها؟.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728هـ): "فهنا لم يرد النبي بالحرف نفس المداد وشكل المداد وإنما أراد الحرف المنطوق وفى مراده بالحرف قولان:
قيل: هذا اللفظ المفرد (28).
وقيل: أراد صلى الله عليه وسلم بالحرفِ الاسمَ كما قال: (ألف حرف ولام حرف وميم حرف). ولفظ الحرف والكلمة له في لغة العرب التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بها معنى، وله في اصطلاح النحاة معنى " (29).
والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن المراد هو هذه الألفاظ المفردة ـ أي: الحروف الهجائية ـ لا أسماؤها لدليلين:
1 - الرسم القرآني، فإنهم كتبوا هذه الحروف على شكل الحرف لا على شكل اسمه، ويتضح ذلك من كتابة حرف (ن) في القرآن، فإنهم لما أرادوا حرف النون كما في سورة القلم كتبوا (ن) كما في قوله تعالى: (ن والقلم وما يسطرون) [القلم: 1] وعندما أرادوا الاسم كتبوا (نون) على صيغة الاسم كما في قوله تعالى: (وذا النون) [الأنبياء: 87].
2 - الأجر المترتب على قراءة هذه الأحرف فإن النبي صلى الله عليه وسلم رتَّب على قراءة (ألم) ثلاثين حسنة، لأنها أحرف ثلاثة، ولو كان المراد أسماء الحروف لكان عدد الحسنات المترتبة تسعين حسنة؛ لأن عدد حروف أسمائها تسعة حروف.
ثالثاً: التفريق بين الحرف وبين الاسم الدال عليه:
فإن للحرف الهجائي اسماً يدل عليه، فاسم (لام) يدل على الحرف (ل) الذي هو أول وآخر كلمة (ليل)، كما تدل الأسماء في اللغة على مسمياتها، ولذا ورد عن الخليل بن أحمد الفراهيدي أنه أوضح هذا المعنى لطلابه حين سألهم كيف ينطقون بالزاء من زيد فقالوا: (زا) فقال: نطقتم بالاسم وإنما الحرف: (زه) (30).
فكل لفظٍ مجردٍ من حروف الهجاء له اسم يدلُّ عليه، ودلالة هذه الأسماء على مسمياتها معروفة عند العرب، ظاهرة لهم، فهم لا يختلفون في دلالة اسم (ميم) على الحرف الأول من قولك (ملك) مثلاً.
رابعاً: التفريق بين المنطوق والمكتوب:
فإن الحروف الهجائية تُكتب في القرآن على هيئتها مجردة، وتُنطق بأسمائها، وتوضيح ذلك:
المكتوب = المنطوق
ألم = ألف لام ميم
ألمر = ألف لام ميم راء
ق = قاف
وهكذا فإن المنطوق هو اسم الحرف لا ذات الحرف، كما سبق عن الخليل، وليس المراد في خلاف العلماء في معنى الأحرف المقطعة؛ ما يُنطقُ، فإنه دالٌّ عند العرب على المسمى وهو الأحرف المجردة، وهي المكتوبة في المصحف، وأما المكتوب وهو حروف الهجاء المجردة، فإنها رموز لا معاني لها، إلا إذا انضمت إلى غيرها، فتكون منها الكلام، والجمل، وإنما وقع الخلاف بين العلماء في السرٍّ الذي لأجله وردتْ في القرآن.
إذا عُلِمت هذه القضايا وانضم إليها القول الصحيح وهو أن القرآن كلّه معلومُ المعنى، وأنه لا يوجد فيه كلمةٌ لا يفهم معناها جميعُ المخاطَبين.
فإن هذه الأحرف المقطعة هي من القرآن قطعاً (31)، ومعنى أسمائها المنطوقةِ ظاهرٌ لا خفاء فيه، إذ هي أسماء الحروف الهجائية المعروفة عند العرب، فألف: اسم للحرف المعروف، وكذا اللام والميم، وغيرها من الحروف، ولم يستنكرها أحد ممن نزل عليهم القرآن، وإنما وقع الخلاف بين العلماء في علة ذكرها في القرآن، وهل لها دلالة غير معناها الظاهر؟.
ومما يدل على ذلك أن الأقوال التي ذكرت معانيها على أنواع:
- أن تكون رموزاً اقتضبت من كلم أو جمل.
- أنها حروف جعلت أسماء وأفعالاً.
- أنها بمعنى الحروف وإنما جيء به لحكم عديدة (32).
¥