- وقال علي رضي (ت: 40 هـ) الله عنه: " لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي" (55).
والتعبير بالسرِّ يشير إلى الحكمة والعلة أكثر مما يشير إلى المعنى، واستعمال العلماء يدل على ذلك ومن أمثلة ذلك:
- ما قاله ابن القيم (ت: 751 هـ): " فلما أراد الله إكرامه بالشهادة ظهر تأثير ذلك الأثر الكامن من السُّمِّ، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، وظهر سرُّ قوله تعالى لأعدائه من اليهود: (أكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون) [البقرة: 87] فجاء بلفظ: (كذبتم) بالماضي الذي قد وَقَعَ منه وتحقَّقَ وجاء بلفظ: (تقتلون) بالمستقبل الذي يتوقعونه وينتظرونه والله أعلم" (56).
- وقال ابن عاشور (ت: 1393هـ) في قوله تعالى: "ما أفاده قوله: (فوقهم) فإن جميع الدواب تمشي على الأرض والطير كذلك فإذا طار الطائر انتقل إلى حالة عجيبة مخالفة لبقية المخلوقات وهي السير في الجوِّ بواسطة تحريك جناحيه وذلك سرُّ قوله تعالى: (يطير بجناحيه) [الأنعام: 38] بعد قوله: (ولا طائر) في سورة الأنعام [الأنعام: 38] لقصد تصوير تلك الحالة" (57). واستعمالات العلماء كثيرة في هذا الباب.
وأما ما نقله السمرقنديُّ عن عمر وعثمان وابن مسعود (ت: 32 هـ) بلفظ واحد وهو: "الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يُفَسَّر ". فقد سبق ما يدل على ورود ما يخالفه عن علي (ت: 40 هـ) وابن مسعود (ت: 32 هـ)، كما ورد مخالفة ذلك عن ابن عباس (ت: 68 هـ) رضي الله عنهم أجمعين كما سيأتي، والقاعدة: أن تفاسير الصحابة رضي الله عنهم حجةٌ إذا اتفقوا، وأما إذا اختلفوا فلا يكون قول أحدهم حجة على الآخر وإنما يرجع إلى المرجحات (58). وقد وقع الاختلاف هنا في المنقول عنهم رضي الله عنهم، مع اختلاف القول عن آحادهم، فلا بد من الرجوع إلى المرجحات الخارجية.
القول الثاني: أنها مما تعلم دلالتها:
ونُقل هذا القول عن ابن عباس (ت: 68 هـ) رضي الله عنهما، ومجاهد (ت: 103 هـ)، والشعبي (ت: 103 هـ)، وقتادة (ت: 117 هـ)، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت: 182 هـ)، وجمع كبير من العلماء (59). ونسبه ابن عطية (ت: 541 هـ) لجمهور العلماء وصَوَّبه (60).
ثم اختلف أصحاب هذا القول في تحديد معناها على أقوال كثيرة (61) يمكن جمعها في هذه الأنواع (62):
النوع الأول:
أقوال ترجعها إلى رموز اقتضبت من كلم أو جمل، فكانت أسراراً لها (63): ويندرج تحت هذا النوع أقوال منها:
1. أنها حروف مقتضبة من أسماء وصفات الله المفتتحة بحروف مماثلة لها، ومثالها: (ألم): ألف إشارة إلى أحد أو أول، واللام إشارة إلى اللطيف، والميم إلى ملك أو مجيد (64).
2. أنها رموز لأسماء الله وأسماء الرسول صلى الله عليه وسلم وأسماء الملائكة. فألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد.
3. أن كل حرف منها رمز إلى كلمة، فنحو (ألم): أنا الله أعلم، و (ألمر): أنا الله أرى، و (ألمص) أنا الله أعلم وأفصل (65). روى ابن جرير (ت: 310 هـ) عن ابن مسعود (ت: 32 هـ) وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (ألم) قال: "أما (ألم) فهو حروفٌ اشْتُقَّ من حروف هجاء أسماءِ الله" (66). وعن ابن عباس (ت: 68 هـ) في قوله (ألم) و (حم) و (ن) قال: "اسم مقطع" (67).
ويُعترض على هذه الأقوال الثلاثة بما يلي:
أ- أنها بحاجة إلى نقل صحيح، قال ابن العربي (ت: 543هـ): " فلو جاء خبر صحيح بأنه اسم من أسماء الله أو من أسماء السور أو القرآن لاخترناه واعتقدناه، وكما أنه لو جاءنا من طريق اللغة أن (يس) معناه: يا سيد، أو (طه) معناه: يا رجل ... لسلمناه له" (68).
ب ـ أنها غير منضبطة، فلا يستطيع كل أحدٍ تأليف تلك الأسماء والكلمات، قال النيسابوري (ت: بعد 850 هـ): " لكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في الجميع " (69).
4. أنها رموز لمدة دوام هذه الأمة بحساب الجُمَّل.
قال ابن جرير (ت: 310 هـ) بعد سياق هذا القول: " كرهنا ذكر الذي حُكي ذلك عنه، إذ كان الذي رواه ممن لا يُعْتَمَدُ على روايته ونقله" (70).
النوع الثاني:
أنها وضعت أسماء أو أفعالاً: ومن تلك الأقوال:
1. أنها أسماء السور (71).
2. أنها أسماء للقرآن اصطلح عليها (72).
قال قتادة (ت: 117 هـ) في قوله: (ألم): " اسمٌ من أسماء القرآن " (73).
¥