ثم برزت التفاسير الجامعة للتفسير بالمأثور كتفسير ابن جرير الطبري، وتفسير ابن أبي حاتم، وحوى هذان التفسيران كثيرًا من تفاسير التابعين المنثورة، وكانا عمدة كل من أتى بعدهما من مصنفي التفسيربالمأثور، وطيلة القرون اللاحقة لم يخب نور هذين الكتابين وبقيا أهم مصدرين لجميع الدراسات في مجال التفسير وعلوم القرآن إلى يومنا هذا.
ومن التفاسير المشهورة ـ كذلك ـ تفسير البغوي، وتفسير ابن كثير، والدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي.
فأما تفسير البغوي فقد امتدحه ابن تيمية وقال: إنه أحسن التفاسير .. وقد حوى قدرًا لا بأس به من الأحاديث المرفوعة .. وهو في مجمله تحرير لتفسير الثعالبي.
وتميز تفسير ابن كثير بالجمع والاختصار والعزو للأصول مع التمحيص والحكم في بعض الأحيان.
أما تفسير السيوطي ففقد قيمته الصناعية لكونه ليس مسندًا، ولو ظهر أصله (ترجمان القرآن) لكان نافعًا.
أما ما سوى هذه الأصول فيكثر فيها الأحاديث الضعيفة بل والموضوعة، ولعل السبب في ذلك ندرة الأحاديث الصحيحة والثابتة المرفوعة، حتى اشتهر عن الإمام أحمد قوله: ثلاثة كتب ليس لها أصول وهي: المغازي، والتفسير، والملاحم. أخرجه الخطيب في (الجامع) من طريق الميموني.
قال ابن حجر: ينبغي أن يضاف إليها الفضائل فهذه أودية الأحاديث الضعيفة والموضوعة؛ إذ كانت العمدة في المغازي على مثل الواقدي، وفي التفسير على مثل مقاتل والكلبي، وفي الملاحم على الإسرائيليات، وأما الفضائل فلا يحصى كم وضع الرافضة في فضل أهل البيت، وعارضهم جهلة أهل السنة بفضائل معاوية بدأً، وبفضائل الشيخين وقد أغناهما الله وأعلى مرتبتهما عنها. اهـ.
وقد اختلف في مراد أحمد بهذا الحرف .. فحملها الخطيب والذهبي وغيرهما على أن مراده بذلك كتبًا مخصوصة.
قال الخطيب في (الجامع): "وهذا الكلام محمول على وجه، وهو أن المراد به كتب مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير معتمد عليها ولا موثوق بصحتها، لسوء أحوال مصنفيها، وعدم عدالة ناقليها، وزيادات القصاص فيها، فأما كتب الملاحم فجميعها بهذه الصفة، وليس يصح في ذكر الملاحم المرتقبة والفتن المنتظرة غير أحاديث يسيرة اتصلت أسانيدها إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) من وجوه مرضية وطرق واضحة جلية.
وأما الكتب المصنفة في تفسير القرآن فمن أشهرها كتابا الكلبي ومقاتل بن سليمان ... ولا أعلم في التفسير كتابًا مصنفًا سلم من علة فيه أو عري من مطعن عليه ". اهـ.
ويرى القاسمي: أن معنى ذلك أن الغالب عليها أنها مرسلة. وهو رأي وجيه.
وقد أنكر المحدثون على أهل الزهد والتصوف كثيراً مما ذكروه في كتبهم من الأحاديث الموضوعات، كحال الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين)، وأبي طالب المكي في (قوت القلوب)، وأبي الليث السمرقندي في (تنبيه الغافلين).
وكذلك أنكروا على أهل التفسير ما يوردونه في تفاسيرهم من أحاديث مكذوبة وإسرائيليات باطلة مستشنعة. كحال ما أورده الكلبي ومقاتل في تفسيريهما، وأبو بكر النقاش في (شفاء الصدور)، والثعالبي في (الكشف والبيان) ... وفي مصنفاتهم من الكذب ما لا يخفى بطلانه، خاصةً ما كان في باب فضائل الآي والسور، فمن لم يميز يقع في غلط عظيم، وربما اغتر به البعض فنقله، وربما عمل به.
لمحة عن المنهج المتبع:
سيكون معولنا في ما نذهب إليه من كشف علل الأحاديث، على أئمة النقد المتقدمين، الذين مهروا في معرفة العلل، مع ما يفتح الله به من الفهم والمعرفة .. ولما كانت العلل لا توجد إلا في الأحاديث التي يظن بها الصحة، فإن من شرطنا:
عدم إيراد الأحاديث الضعاف البين ضعفها، فهي وإن كانت معلولة، إلا أنه لا يجري عليها مصطلح العلة، من حيث الخفاء والغموض.
وألا نورد حديثًا صحيحًا من كل وجه لا علة فيه، فدخل معنا بهذا كل حديث صح من وجه وأعل من وجه آخر.
ومن شرطنا (كذلك): عدم إيراد الأحاديث الغرائب التي تفرد بها الثقات أو من دونهم إذ لا وجه للعلة فيها، إلا إذا صُححت وظهر لي في تصحيحها نظر، فأوردها من باب التنبيه على نكارتها.
وألا أتعرض للآثار إلا في أضيق الحدود .. إذ المقصود بأحاديث التفسير هنا الطراز الأول المنقول عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وسوف أتعرض لتراجم الرواة، وبيان أوجه التجريح والتعديل في البعض منهم، ممن يكون للكلام فيه أثر على الحديث، وأعرض عن بقية الرواة الذين لا يظهر لهم أثر في ضعف الرواية أو إعلالها، وسوف يكون ذلك بطريقة مجملة مختصرة.
وأتعرض كذلك لبيان بعض القواعد الحديثية الاصطلاحية .. التي يتم بواسطتها معرفة بعض وجوه العلل.
وربما نبهت على بعض اللطائف الإسنادية، المتعلقة بما أورده من أحاديث.
وربما فسرت الغريب، وذكرت بعض الفوائد إن اقتضى الحال.
على أني لن ألتزم منهجًا معينًا في عرض المادة العلمية، إذ أنه لم يسبق لي أن كتبت في هذا الموضوع، فسأقوم بالكلام على الحديث وفق ما يتفق لي، في كل حديث بحسبه، منتظرًا إفادة القراء ومشاركاتهم لزيادة التحرير.
وسوف أبتدئ (بعون الله تعالى) بآي كتاب الله الكريم آية فآية وسورة فسورة، مقدمًا ما له تعلق بالاستعاذة والبسملة، مما هو داخل في شرطنا، على أن أفرد لكل حديث مشاركة خاصة، ليتسنى التعقيب لمن أراد ذلك، وليسهل عليَّ الإحالة إلى رقم المشاركة عند الضرورة كتكرار ترجمة أحد الرواة، أو تكرار ورود الحديث في تفسير آية من الآيات، أو الحاجة للتذكير بقاعدة من قواعد الجرح والتعديل .. ونحو ذلك.
ونحن هنا إنما نطرح هذه العلل لأهل العلم وطلابه، الذين يقدرون هذا الفن ويجلون أصحابه، ونذكر علل الأحاديث نصيحة للدين وحفظًا لسنة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وصيانة لها، وتمييزًا مما يدخل على رواتها من الغلط والسهو والوهم، ولا يوجب ذلك طعناً في غير الأحاديث المعلة بل تقوى بذلك الأحاديث السليمة لبراءتها من العلل وسلامتها من الآفات. ونستمد من الله ـ تعالى ـ السداد والتوفيق.
وسوف يكون محل الحلقات إن شاء الله ملتقى أهل التفسير في هذه الشبكة العلمية؛ لإتاحة المجال للتعقيب والمناقشة.
¥