(آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) والإيمان ها هنا ذكر مطلقاً دون قرنه بالعمل الصالح – وإن كان العمل داخلاً فيه دخول الشيء في مسماه – لإيثار الأصل الإيماني الذي هو التوحيد؛ أي بسبب أصل اهتدائهم إلى الإيمان، زادهم الله من الهدى الذي هو العلم النافع والعمل الصالح (1).
ذلك أن الإيمان وكما هو معلوم متضمن للمجمل والمفصل، فهم آمنوا بمجمله وأصله الذي هو التوحيد؛ فشكر الله تعالى إيمانهم فزادهم من مفصله الذي هو الهدى المتضمن للعلم النافع والعمل الصالح.
بين تحصيل الإيمان وزيادة الهدى:
إن فعل الإيمان نسب إليهم فهو صادر منهم تحصيلاً وسعياً لا إلهاماً وكشفاً. والذي معهم – ابتداءً – هو أصل الإيمان وهو التوحيد بقرينة إطلاقه وذكر الهدى المتضمن للعمل الصالح في سياقه؛ فالإيمان في الآية متوجه إلى التوحيد بقرينة السياق، فثمة عموم وخصوص بين الإيمان والهدى عند الجمع بينهم والإفراد، فإذا أفرد أحدهما بالذكر يكون متضمناً للآخر، والعكس صحيح، وثمة قرينة أخرى، وهي أن اسم الرب تعالى أضيف إليهم ((آمَنُوا بِرَبِّهِمْ))، وذكر الربوبية مع الإيمان هو من باب قرن الإلهية بالربوبية، كما هو المعتاد في السياقات القرآنية لمن تأمل.
وإضافة اسم الرب إليهم تشريفاً وتربية لهم، فقد خصّهم الله تعالى بتربيتهم على التوحيد.
أما بالنسبة لزيادة الهدى، فثمة فائدة أخرى، ذلكم أن المزاد عليهم من الله تعالى وارد في لفظ الهدى لا بلفظ الإيمان، فلم يقل الله تعالى زدناهم إيماناً بل ((وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)) مع أن ما عندهم هو من جنس الإيمان، والسبب في هذا التقديم والإيثار يرجع إلى:
أولاً: إنما المقصود تكميل الإيمان بمجمله ومفصله، بأصله وفروعه، بعلمه وعمله، بأساسه وبنيانه ... فالفتية لما آمنوا إيماناً مجملاً زادهم الله تعالى الإيمان المفصل الذي جاء ذكره في الآية بلفظ الهدى، لئلا يتوهم أحد أن الزيادة هي في جنس الأصل فقط، بل أن المزاد عليهم وإن كان من جنس ما عندهم لكن هو زائد على قدر ذلك في الإجمال والتفصيل.
ثانياً: وهم سعوا إلى سبيل الرشاد هداية واستجابة فزادهم الله تعالى ووفقهم إلى هداية أخرى أكمل وأتّم من الأولى فاجتمعت عندهم الهدايتان: هداية الإرشاد وهداية التوفيق.
ثالثاً: ولما كان غالب تعلق الهدى إنما يحصل بتكميل القوة العملية المتفرعة على تكميل القوة العلمية، كان إيثار الهدى في هذا السياق من باب تكميل وتهذيب القوة العملية، والاعتناء بالتزكية.
رابعاً: ولعل ثمة فائدة أخرى:
هؤلاء الفتية لما آثروا الإيمان على الكفر، والتوحيد على الشرك فقد جاهدوا في الله توحيداً وإيماناً، فلا بدّ من هدايتهم إلى أكمل سبل الهداية كما قال تعالى: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)) فكل من يجاهد في الله توحيداً لا بدّ وأن يهدى إلى كل سبل الهداية لا إلى سبيل واحدة؛ أي إلى كل شرائع الإيمان وشبعه ولوازمه وثماره ...
وقرينة هذا التوجيه ظاهرة في تنكير الهدى في الآية، إذن هي للتعميم ولتعظيم النعمة المزادة عليهم وتفخيمها، فتأمّل.
تنبيهات:
1 - الآية دلت بمنطوقها على أن الإيمان يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، يزيد بالأسباب الموجبة لزيادة الإيمان وسعي العباد لتحصيله، وينقص بتركها وعدم إرادة الانتفاع بها، وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة.
2 - إن إيمان الفتية تحصل عندهم بطريقة الاستجابة إلى منادي الرسل وواعظ الإيمان في القلب، فضلاً عن حصوله بمقتضى العلوم الفطرية التي سلمها الله تعالى من التلوث بدفع المعارض لها، في حين ذهب البعض إلى أن إيمان هؤلاء حصل بمقتضى الإلهام (!)
وهذا خلاف معهود تحصيل الإيمان، إذ لو كان هو المقصود لنوّه السياق له من قريب أو بعيد وما تقدم من إيضاح كافٍ لرده.
أثر تجريد التوحيد على الأعمال القلبية:
هؤلاء الفتية الممدوحة صفتهم قد اجتمعت فيهم خصال تفرقت في غيرهم، فكانوا علماء بين قوم جهال، وكانو مؤمنين وسط قوم كفار، وكانوا موحِّدين وسط قوم مشركين، وهذه الحال والوصف من موجبه إعلان العداء لهم، فما كان منهم إلا الثبات.
¥