تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فبإيمانهم هذا آثروا محبة الله على محبة سواه، وآثروا الفرار إليه على مصاحبة الأصحاب والأهل والأحباب، فتحققت خصلة إيثار المحبوب في عمل القلب، فكرهوا الردة، وكرهوا ما كان عليه قومهم، لذا قال الله على لسان بعضهم: ((إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)).

ومن كانت هذه خصاله ذاق حلاوة الإيمان؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان في قلبه: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" متفق عليه.

فهؤلاء الفتية لما وجدوا أثر حلاوة الإيمان قاموا لله في ذاته قومة التوحيد والدعوة إلى سبيله تعالى، والتعريف به رباً ومعبوداً، وبأسمائه وصفاته.

وفي هذا المعنى الدقيق يقول ابن القيم الجوزية في "المدارج" (3/ 67 - 68):

" فإن هؤلاء – أي الفتية – كانوا بين قومهم الكفار في خدمة ملكهم الكافر، فما هو إلا أن وجدوا حقيقة الإيمان والتوفيق وذاقوا حلاوته وباشر قلوبهم فقاموا من بين قومهم، وقالوا: ((رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً))، والربط على قلوبهم يتضمّن الشدّ عليها بالصبر والتثبيت وتقويتها وتأييدها بنور الإيمان حتى صبروا على هجران دار قومهم ومفارقة ما كانوا فيه من خفض العيض وفرّوا بدينهم إلى الكهف.

((وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا)):

والربط على قلوبهم يتضمّن الشد عليها بالصبر والتثبيت وتقويتها وتأييدها بنور الإيمان وهو عكس الخذلان، فالخذلان حلّه من رباط التوفيق فيغفل عن ذكر ربه، ويتبع هواه، ويصير أمره فرطاً". ويقول الشنقيطي رحمه الله في "أضواء البيان" (4/ 29):

"أي ثبتنا قلوبهم وقويناها على الصبر، حتى لا يجزعوا ولا يخافوا من أن يصدعوا بالحق، ويصبروا على فراق الأهل والنعيم والفرار بالدين في غار في جبل لا أنيس به، ولا ماء ولا طعام.

ويفهم من هذه الآية الكريمة: أن من كان في طاعة ربه جل وعلا يقوى قلبه، ويثبته على تحمل الشدائد، والصبر الجميل".

و ((إِذْ)) هنا ظرفية والربط متعلق بوقت قومتهم؛ أي حين قاموا، وقد حصل بثمرة تحصيلهم للإيمان، فربط على قلب كل واحد منهم برباط التوفيق حتى يتصل بذكر ربه، ويتبع مرضاته، ويجتمع عليه شمله فلا يخذل، ذلكم أن أخذل الخذلان خذلان القلب، فلا يسلّم لحكم الله الشرعي والكوني تسليماً؛ فيبقى هذا القلب دائراً بين الشبهة والشهوة ومن كانت هذه حاله فهو فارغ القلب مخذول الحال لا يتمكن من النزول في منازل الصبر أو القيام في مقام الدعوة، وقلوب هؤلاء الفتية لم تكن فارغة من الإيمان أصلاً أو كمالاً لما ربط الله على قلوبهم، كما ربط الله تعالى على قلب أم موسى لما فرغ، يقول تعالى: ((وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) [القصص:10].

وليس بالضرورة أن يفرغ القلب من أصل الإيمان؛ لأن ذلك من قبيل الكفر، بل قد يفرغ من قبيل الإنابة والخشية والخوف والتصدع واليقين ما يوجب انتقاص إيمان العبد بحسبه.

الربط بالتأييد والنصر في مقام الدعوة:

قال القرطبي في "تفسيره" (10/ 365 - 366): ((إِذْ قَامُوا فَقَالُوا) يحتمل ثلاث معان:

1 - أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر.

2 - أنهم أولاد عظماء تلك المدينة فخرجوا وراء تلك المدينة ... فقاموا جميعاً فقالوا ...

3 - أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله تعالى ومنابذة الناس، كما تقول قام فلان إلى أمر كذا إذا عزم عليه بغاية الجد .. ".

والأقوال الثلاثة وإن كانت محتملة المعنى لكن المعنى الثالث أظهر.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير