أي نهضوا بهمة ونشاط وقصد وعزم لاتّباع المقصود ... فهم بهذا الوصف نزلوا في مقام الدعوة إلى الله تعالى وصارت حالاً لهم لا تنفك عنهم؛ فقولهم التوحيد، وعملهم التوحيد، وجهادهم التوحيد؛ فحققوه قولاً وعملاً ودعوةً وجهاداً ومقاماً وحالاً ... "وإذا تعلقت همة العبد في الله تعالى طلباً صادقاً خالصاً محضاًَ فتلك هي الهمة العالية، فمن كان كذلك فلا يقدر على التمهل بل تلزمه بطلب المقصود. وصاحب هذه الهمة سريع وصوله وظفره بمطلوبه ما لم تعقه العوائق، وتقطعه العلائق .. " (2).
فهؤلاء الفتية في قومتهم للصدق بالحق كانت همتهم عالية.
همة اتصلت بالله تعالى طلباً وقصداً.
وهمة اتصلت بخلقه دعوة ونصحاً، فوجدت مطلوبها ومقصودها بالإخلاص، وطلبها بالصدق، وطريقها بالمتابعة قال تعالى: ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) [فصلت:33].
تحقيق التوحيد قولاً وعملاً، والاستدلال على المطلوب بجنس استدلال الرسل
فقاموا قومة في ذات الله تعالى توحيداً، فشرعوا بادئ بدء بأجل مقصد من مقاصد الرسل الضرورية ألا وهو مقصد التعريف بالله ربّاً ومعبوداً وبأسمائه لتبنى على هذا المقصد مطالب الرسالة الأخرى.
شرعوا بالتعريف بالتوحيد مستدلين بجنس استدلال الرسل قالوا: ((رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) ولم يقولوا: (رب السماوات والأرض ربنا) وفي إيثار تقديم الرب مضافاً إليهم على تقدميه مضافاً إلى السماوات والأرض مع ما فيه من إظهار اعترافهم بأنهم مربوبون لله تعالى وإقرارهم بما في أنفسهم على ما حولهم من العوالم؛ فإنه يدل أيضاً على أنهم استدلوا بالله تعالى على معرفة الأشياء، لا بالأشياء والخلق على معرفة الله، وإن كان الثاني يتحصل به المطلوب، لكن استدلال الرسل هو الأكمل والأحكم، وبهذا قال تعالى في تقرير استدلالهم: ((قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) فالرسل صلوات الله عليهم استدلوا بالله تعالى على الأشياء وهذا استدلال تام، فكان استدلال أصحاب الكهف من جنس هذا الاستدلال بهذا، قال تعالى: ((إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)).
فكان إيمانهم توحيداً، وقومتهم توحيداً، وقولهم توحيداً، واستدلالهم إلى التوحيد فطرياً، فاستحقوا بموجب ذلك وصف الولاية الشرعية؛ لهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى في "المجموع" (17/ 22): "وقصة أهل الكهف أحسن قصص أولياء الله الذين كانوا في زمن الفترة " أ. هـ
وسيأتي – إن شاء الله تعالى – في الحلقة القادمة الكلام على المقصود من قومتهم، وتحقيق أن المراد بها توحيد الإلهية، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
للمراسلة: [email protected]
* الهوامش:
1) "تيسير الكريم الرحمن (5/ 14).
2) من كلام ابن القيم في "المدراج" (3/ 3 - 4).
ـ[عبد الله بن حميد الفلاسي]ــــــــ[23 Mar 2004, 04:51 م]ـ
للرفع
ـ[طه ياسين ناصر الخطيب]ــــــــ[24 Mar 2004, 10:57 ص]ـ
الأخ الفاضل
جزاك الله تعالى ألف خير على هذه التأملات، وأود هنا أن أبين للأخوة أننا نتابغ بشغف ما يكتب، فهل أتطفل عليكم لأطلب مزيداً من العمق ـ مع ماتحويه تأملاتكم من عمق ـ
مثال ذلك، نوع الباء في (بالحق) ودلالتها، وسر التعبير بالحق، الذي يعني الصحة والقوة والثبات والإحكام.
وجزى الله الجميع خيراً.
ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[28 Mar 2004, 03:18 م]ـ
أخي الكريم عبدالله بن حميد الفلاسي وفقه الله
جزاك الله خيراً على هذه التأملات الدقيقة العميقة، وأسأل الله أن يكتب لكم الأجر والثواب على ذلك، ونحن في انتظار الحلقة القادمة منها.
وأشكر أخي الكريم الدكتور طه الخطيب على تكرمه بمشاركتنا، ومتابعة ملتقى أهل التفسير، وأرجو منه التكرم بالمشاركة معنا بعلمه الغزير، فهو من المتخصصين في التفسير والدراسات القرآنية، ومن البحوث التي قرأتها له بحثه القيم: (قل هذه سبيلي .. ) تدبر وتحليل. في مجلة الأحمدية التي تصدر عن دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث في دبي. أرجو أن نرى بحوثكم وفقكم الله قريباً، ولا تحرمونا من تعقيباتكم ومداخلاتكم التي ستثري الموضوعات من غير شك. وفقكم الله جميعاً.