وينقل عن أئمة المفسرين والصحابة، فينقل عن علي بن أبي طالب، وابن عباس، والحسن البصري، وقتادة، والسدي، ومن الأخباريين عن ابن الكلبي وغيرهم، ولا يظهر اجتهاده ورأيه في شرح معاني الغريب، أو توضيح إعراب أو بيان إعلال أو إبدال، أو تغيير ما في اللفظ أو العبارة.
ويقلل من الشاهد الشعري، ولا يفسر به الآيات تفسيراً مباشراً، ولا يحتج على معنى الآية بمعنى البيت، لكنه يأتي بالبيت لتوضيح المعنى اللغوي القريب الذي لا شبهة وراءه، ولا يعني تزمته هذا جموداً، إذ إنه كثيراً ما يخرج على جماعة المفسرين واللغويين ويعتمد على رأيه الشخصي، الذي توصل إليه بمُدارسة كلام العرب، وسننهم وطرقهم في التعبير.
وقد يأخذ بظاهر اللفظ، فيفهم معنى الصورة البيانية في الآية فهماً مادياً ظاهرياً، قال في الآية: (ثم في سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ ((7) ذُكر أنها تدخل في دبر الكافر فتخرج من رأسه، فذلك سلكه فيها (8)، وفي الآية: (تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ((9) تقول للكافر يا كافر يا منافق إليَّ، فتدعو كل واحد باسمه (10). ولا يرى الفراء أن الدعاء هنا مجازي بالنسبة لجهنم، وهو دعاء معنوي بلسان الحال لا بالقول واللسان.
ويغلب على الكتاب الطابع النحوي، وهذا طبيعي من إمام النحويين الكوفيين في عصره، وكثيراً ما نراه يقف، ليوضح الجانب النحوي، والإعراب، وينتهي إلى النظرية العامة، فيبين قواعدها وأصولها، وأدلتها وأسبابها ومسبباتها، جاء في تفسيره لقوله تعالى: (وَيَوْمَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وجُوهُهُم مُسْوَدَّةٌ ((11): ترفع وجوههم ومسودة، لأن الفعل وقع على الذين وجاء بعد الذين اسم له فعل فرفعته بفعله وكان فيه معنى نصب، وكذلك فافعل لكل اسم أوقعت عليه الظن، والرأي، وما أشبههما، فارفع ما يأتي بعد الأسماء إذا كان فيها أفاعيلها بعدها، كقولك: رأيت عبد الله أمره مستقيم فإن قدمت الاستقامة نصبتها ورفعت الاسم فقلت رأيت عبد الله مستقيماً أمره، ولو نصبت أمره في المسألة الأولى على التكرير كان جائزاً فتقول: رأيت عبد الله أمره مستقيم.
وكما يوجه عنايته للنحو والإعراب، يعنى بالصرف وبناء الألفاظ، مثل قوله في الآية: (وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ((12): (زجرَ بالشتم، وازدُجِرَ افتُعِلَ من زجَرْتُ، وإذا كان الحرف أوله زاي صارت تاء الافتعال فيه دالاً، فقس عليه ما ورد) (13).
ويحكم القاعدة الصرفية في تصحيح القراءات أو رفضها. يقول: حدثني مسلم بن أبي سارة قال: (كان جاري زهير الفرقي يقرأ: (متَّكئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيّ حِسَانٍ ((14)، فالرفارف قد تكون صواباً، وأما العباقري فلا، لأن ألف الجمع لا يكون بعدها أربعة أحرف ولا ثلاثة (15).
تلك هي الاتجاهات اللغوية والنحوية الغالبة على الكتاب، ولا نعدم بينها أثراً لفهم أدبي لتعبير أو صورة بيانية (16).
بعض ما جاء في الكتاب من الدراسات البيانية:
1ـ الكناية:
ورد هذا التعبير في مواضع عديدة من الكتاب، وهو يدل عنده بصفة عامة، على المعنى المعروف في البلاغة، فيرى في الكناية ما رآه أبو عبيدة، وقرره ابن قتيبة والمبرد.
يفسر قوله تعالى: (سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ ((17). الجلود هنا: ـ والله أعلم ـ الذكر، وهو مما كنى به الله عز وجل عنه، كما قال: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ ((18) والغائط: الصحراء، والمراد من ذلك أو قضى أحدكم حاجة، كما قال: (وَلَكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرَّاً ((19)، يريد النكاح.
والكناية عنده ـ أيضاً ـ بمعنى الستر، أو الإخفاء عامة، فهي إخفاء معنى كما في الأمثلة السابقة، أو إخفاء لفظ أو استبدال غيره به، كما أخفى القول وجيء مكانه بالكتاب في قوله تعالى: (كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيْ ((20) فالكتاب يجري مجرى القول. وقد يختفي اللفظ ويبدل به ضمير مثلما في قوله: (وَالنَّهارِ إِذَا جَلاَّهَا ((21)، جلّى الظلمة، مجاز الكناية عن الظلمة ولم تذكر لأن معناها معروف.
2ـ التشبيه والمثل:
وهذان اللفظان أيضاً من أول الاصطلاحات التي بدأت تظهر في الدراسات القرآنية دالة على صور بيانية، لكنها ما تزال عند الفراء ـ كما كانت عند أبي عبيدة ـ تطلق في حدود المعنى اللغوي، وإن كانت تشير إلى المعنى البلاغي.
¥