تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومثال ذلك: قوله تعالى: (فَإِذَا انشقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ((22)، أراد بالوردة الغَرْسَ، والوردة تكون في الربيع إلى الصفرة أميل، فإذا اشتد البرد كانت وردية حمراء، فإذا كان بعد ذلك كانت وردة إلى الغبرة أميل، فشبه تكون السماء بتكون الوردة، وشبهت الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن واختلاف ألوانه، ويقال إن الدهان هو الأديم الأحمر (23).

وتعتبر هذه المحاولة في فهم التشبيه جديدة، وخطوة متقدمة عن فهم أبي عبيدة له، وهو الذي لم يشر إلى التشبيه غير إشارات عابرة باعتباره مجازاً ولم يفصل فيه تفصيل الفراء عن فهم ودراية.

3ـ المجاز:

يتكلم الفراء على المجاز بالمعنى اللغوي الذي رأيناه بوجه عام في مجاز القرآن، وقد يتطرق إلى المجاز المعنوي أو إجازته، فيقول في الآية: (فسنيسره للعسرى (فهل في العسرى تيسير؟ فيقال في هذا: إجازته بمنزلة قوله تبارك وتعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيْمٍ ((24)، والبشارة في الأصل للمفرح والسارّ، فإذا جمعت في كلامين. هذا خير وهذا شر، جاز التيسير فيهما جميعاً.

4ـ الاستعارة:

ولم ينص عليها كتابة هنا، كما لم ينص عليها أبو عبيدة من قبل، ولم يستعملها الجاحظ كذلك في دلالتها الدقيقة، وكان يستعمل معها كلمة تمثيل أو بدل ولو أنها قد تجيء في بعض النصوص عنده دالة على الاصطلاح البلاغي أو قريب منه. وأفرد لها ابن قتيبة باباً في (تأويل مشكل القرآن) وهذا كله يدل أن استعمال تعبير "استعارة" لم يكن يطلق على المعنى البلاغي المفهوم، إلا بعد مرحلة أبي عبيدة والفراء على الأرجح، أي بعد مطلع القرن الثالث بربع قرن تقريباً، وقد شاع استعمال هذا التعبير بعد ذلك (25).

وكثيراً ما يتعرض الفراء لمواطن الاستعارة في القرآن، ولكنه لم ينص عليها، وأوضح مثال لذلك حين تعرض لقوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ((26)، القرَّاء مجمعون على ضمّ الياء، حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال وحدثني ... عن ابن عباس أنه قرأ: يوم تكشف عن ساق. يريد يوم القيامة والساعة لشدتها، قال وحدثني بعض العرب لجد طرفة:

كَشَفَتْ لَهُمْ عن سَاقِهَا * ـ * ـ * وبَدا مِنَ الشَّرِّ البُراحِ

وتنبه الفراء إلى أن الصورة البيانية هنا تعبر عن الشدة، ولم يسم الصورة بالاستعارة، ولم يشأ الفراء في هذا الموقف أن ينفرد بالتفسير بل روى عن ابن عباس، لكي لا يقع في التشبيه فيقع في الحرج.

ويتعرض الفراء بعد ذلك لأبحاث متنوعة في الأسلوب، فيتكلم على الاستفهام وخروجه أحياناً إلى معان أخرى كالتوبيخ، والانتقال من مخاطبة الشاهد إلى الغائب، والتقديم، والتأخير، وغير ذلك.

ويطرق الفراء أبواب أبحاث لغوية عامة، تتصل بمعاني الألفاظ وليست بالإعراب وحده. من ذلك كلامه على التكرار، وما يقصد به في القرآن من التخويف، مثل ما في قوله تعالى: (كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ((27)، الكلمة قد يكررها العرب على التغليظ والتخويف وهذا من ذلك، وقوله عز وجل: (لَتَروُنَّ الجَحِيْمَ، ثُمَّ لَتَروُنَّها عَيْنَ اليَقِيْنِ ((28)، مكررين من التغليظ أيضاً.

ومن لطائف أسلوب القرآن التي يذكرها الفراء: أسماء العذاب والقيامة، يقول عز وجل: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ((29)، والفاقرة: الداهية، وقد جاءت ألفاظ القيامة والعذاب بمعاني الدواهي وأسمائها. وهذه التفاتة طريفة من الفراء، لتنبهه إلى ما لهذا الاستعمال القرآني من اثر في نفوس العرب، إذ يثير بهذه الألفاظ استدعاءات وجدانية تروع الناس وتخوفهم، لأنهم اعتادوا أن يقرنوا بين هذه الألفاظ وبين مدلولاتها من الدواهي، وجاءت في القرآن تؤدي دورها في إثارة معاني الفزع والخوف، وتعويد النفوس رهبة يوم القيامة لتبتعد عن المعاصي وتترك الذنوب.

نظم القرآن ووزنه:

لم ينتبه أبو عبيدة للناحية الموسيقية في نظم القرآن والتوقيع الرتيب فيه، مما جعل له نفعاً معيناً، وأثراً موسيقياً فعالاً في النفوس، ولا ينفي هذا التجاهل من أبي عبيدة إدراك الناس على عهده لهذه الخاصة، ومراعاتهم لرصف الكلام في وحدات صوتية تتبع نظاماً رتيباً يساير وقعه المعنى العام في السورة القصيرة، أو مجموعة بعينها من الآيات (30).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير