تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقديماً تنبه العرب إلى وزن القرآن، فقارنوه بوزن الشعر، وإيقاع سجع الكهان ولكن هذه الملاحظات سكتت لسبب أو لآخر. ولعل هذا السكوت عن البحث في نظم القرآن من هذه الناحية يرجع إلى انصراف الناس إلى المعاني وما تحمل من تشريع وعقيدة، وهو جل اهتمامهم في ذلك الوقت.

ومهما يكن من شيء فالجديد في كتاب الفراء والجدير بالاهتمام، أنه لاحظ هذا النسق الصوتي، وحاول أن يتتبعه. ونراه في ملاحظاته التي أوردها مدركاً تماماً لوزن القرآن، ومدركاً الغاية التي عمد إليها في التزام وزن بعينه، وهو الترابط بين الكلمات وانسجام النغم، وتوافق الفواصل في آخر الآيات. وإذ تسترعي النباهة هذه الظاهرة، يحاول أن يضبطها بما عرف عند العرب من أوزان الشعر.

ويقول: حدثني مندل عن مجاهد عن ابن عباس أنه قرأ ناخرة، وقرأ أهل المدينة نخرة، وناخرة أجود الوجهين في القراءة لأن الآيات بالألف، ألا ترى أن ناخرة، والحافرة والساهرة أشبه بمجيء التنزيل، والناخرة والنخرة سواء في المعنى بمنزلة الطامع والطمع، والباخل والبخل.

فالكلمتان عنده مستويتان في المعنى، والنظم القرآني يختار ما يتفق والمقاطع أو الفواصل ـ رؤوس الآيات ـ وينسجم مع النسق الموسيقي العام في آيات السورة، فإذا كانت الفواصل كلها بالألف فإن القراءة الأصح لناخرة بالألف لأنها أشبه بمجيء التنزيل، كما يقول: لموافقة هذه القراءة الأخيرة لرؤوس الآيات في السورة.

وتارة يسمي هذا التوافق الصوتي، استقامة في القراءة، فيقول: وقوله عز وجل: (واللهُ أَعْلَمُ بما يُوعُونَ ((31). الإيعاء ما يجمعون في صدورهم من التكذيب والإثم والوعي. لو قيل (والله أعلم بما يَعُون) لكان صواباً، ولكنه لا يستقيم في القراءة. أي لا يستقيم مع ما قبله من الآيات: (فَمَا لَهم لا يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهمُ القُرآنُ لاَ يَسْجُدُونَ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِِّبُونَ، واللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ((32)، ولعل الفراء يقصد أن لفظ يعون لا يستقيم مع رؤوس الآيات الأخرى لأنه مفتوح الأول دون غيره المضموم الأول: يُؤمنون، يُكذِّبون، يُوعون. ثم لعله يشير إلى الوزن الموسيقي للكلمة، فهو في (يوعون) أكثر اتفاقاً منه في (يعون)، لأن (يعون) ينقصها حرف ساكن، وكل من الفواصل الأخرى مكون من ستة حروف. والضم في هذه الآيات هو النغمة السائدة ـ أو المفتاح الموسيقي ـ لها.

والنظم القرآني حريص على هذا التوافق، فقد يعدل من لفظ إلى آخر بل من صيغة إلى أخرى، وقد يجيز حذف أواخر الكلمات موافقة لرؤوس الآيات مع موافقة ذلك لكلام العرب، مثل قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ((33) ذكروا أنها ليلة المزدلفة، وقد قرأ القرَّاء يسري ـ بإثبات الياء ـ ويسر ـ بحذفها ـ وحذفها أحب لمشاكلتها لرؤوس الآيات، ولأن العرب قد تحذف الياء وتكتفي بكسر ما قبلها منها.

وهكذا وضع الفراء أمامنا قواعد عامة للتغيرات التي يمكن أن تطرأ على الكلمات، والتي قد يعمد إليها القرآن أحياناً للتوافق الموسيقي في نظمه (34).

وصلة تلك التغيرات بما يطرأ على القافية من الشعر لإقامة الوزن، ولا يفتأ الفراء يشير إلى أن القرآن في عدوله عن لفظ إلى آخر، أو تعديله للألفاظ، لا يخرج عن أساليب العرب، وفنون القول عندهم، وخاصة في الشعر وهو الكلام الموزون، الذي يشابه ما في نظمه من توافق وانسجام ما يراعيه أسلوب القرآن.

الهوامش

(1) الفراء (144 - 207هـ- 761 - 822م) أبو زكريا يحيى بن زياد، تلميذ الكسائي، من أعلم الكوفيين بالنحو واللغة وأخبار العرب. له (معاني القرآن) و (المنقوص والممدود).

(2) راجع في ذلك رأي أحمد أمين في ضحى الإسلام: 2/ 141.

(3) [الزمر: 39/ 36]

(4) [هود: 11/ 54].

(5) [الأحقاف: 4/ 15].

(6) [المعارج: 70/ 10].

(7) [الحاقة: 69/ 32].

(8) الفراء: معاني القرآن. تحقيق: محمد علي النجار، القاهرة 1955 - 1972م، ص103.

(9) [المعارج: 70/ 17].

(10) معاني القرآن: ص105.

(11) [الزمر: 39/ 60].

(12) [القمر: 54/ 9].

(13) معاني القرآن: ص64.

(14) [الرحمن: 55/ 76].

(15) معاني القرآن: ص73.

(16) د. محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد العربي. دار المعارف بمصر ط (2) 1961م، ص54.

(17) [فصلت: 41/ 20].

(18) [النساء: 4/ 13].

(19) [البقرة: 2/ 235].

(20) [المجادلة: 58/ 21].

(21) [الشمس: 91/ 3].

(22) [الرحمن: 55/ 37].

(23) معاني القرآن: ص170.

(24) [التوبة: 9/ 3].

(25) أثر القرآن في تطور النقد العربي، ص58.

(26) [القلم: 68/ 42].

(27) [التكاثر: 102/ 3 - 4].

(28) [التكاثر: 1/ 6 - 7].

(29) [القيامة: 75/ 25].

(30) أثر القرآن في تطور النقد العربي، ص12.

(31) [الانشقاق: 84/ 23].

(32) [الانشقاق: 84/ 20 - 23].

(33) [الفجر: 89/ 4].

(34) أثر القرآن في تطور النقد العربي، ص65.

ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[12 Mar 2004, 08:59 ص]ـ

جزاك الله خيراً على هذا النقل القيم، ويا حبذا لو زدتنا وفقك الله لكل خير.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير