وفي ذلك يقول الله – تعالى –: ((فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً)).
فاجتمعت لهؤلاء الفتية هذه الثمار تكرمة الله – تعالى – لهم على توحيدهم وجهادهم وعزلتهم، وفي هذا المعنى يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في "تيسير الكريم الرحمن" (5/ 16): "فحفظ أديانهم وأبدانهم، وجعلهم من آياته على خلقه، ونشر لهم من الثناء الحسن ما هو من رحمته بهم، ويسّر لهم كل سبب حتى المحلّ الذي ناموا فيه، كان على غاية ما يمكن من الصيانة" أ. هـ
نعم؛ اجتمعت لهم خصال محمودة وعطايا ممدوحة: صيانة المحل، ورعاية الحال، وحفظ الاعتقاد.
فائدة
لقد كرّم الله – تعالى – أصحاب الكهف بما هيَّأ لهم من الأسباب الكونية والشرعية في حفظهم وتثبيتهم وتمكينهم حتى إنّ كثيراًَ من السنن الكونية آنذاك سُيّرت وليس هذا الخرق مقصوداً لذاته؛ أي: لمجرّد التأثير الكوني في خرق العادة، بل تعدّاه إلى مقاصد دينية أخرى؛ فالخرق للأحوال الكونيّة والسنن القدرية إنّما يأتي تابعاً للمقصود الديني الشرعي؛ فالخرق في الكونيّات لا ينفع إذا لم يكن حادثاً للدين تابعاً له.
فالذي حصل للفتية في كهفهم من الآيات الدالة على عظمة الله – تعالى – سواء السماوية منها أو الأرضية؛ إنما لتكميل عبوديّتهم، وتثبيت قوائم دعوتهم، وترسيخ حقائق إيمانهم، وليكونوا آية لغيرهم، وذكرى للناظر في أحوالهم ... فكرّموا بمقتضى ذلك بالخرقين الديني والكوني، والثاني تابع للأول، وهذا ظاهر في كثير من الآيات من تأمل (4).
((فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً)).
وقوله تعالى: ((ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً)).
وقوله: ((وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ)).
وقوله – تعالى –: ((وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا)).
أهم ما دلّت عليه الآيات من المعاني والمقاصد
1 - قصة أهل الكهف أحسن قصص أولياء الله الذين كانوا في زمن الفترة.
2 - تحقيق التوحيد قولاً وعملاً ودعوة وحالاً واستدلالاً شرطٌ في الولاية الشرعية.
3 - تلقّي القصص من الوحي من موجبه تحصيل اليقين المثمر للعمل والانقياد.
4 - هؤلاء الفتية لما آثروا أصل الإيمان شكر الله – تعالى إيمانهم؛ فزادهم من الهدى المتضمّن للعلم النافع والعمل الصالح.
5 - ذكر الربوبية مع الإيمان هو من باب قرن الإلهية بالربوبية كما هو الغالب في السياقات القرآنية.
6 - كان إيثار الهدى في الآية من باب تكميل القوة العملية وتهذيبها، والاعتناء بالتزكية.
7 - كل من يجاهد في ذات الله توحيداً وإيماناً لا بدّ وأن يُهدى إلى سبل الهداية وشرائع الإيمان.
8 - طريقة تحصيل الإيمان بمقتضى العلوم الفطرية المسلّمة من المعارض، فضلاً عن الاستجابة إلى الوحي، هي أكمل طريقة.
9 - هؤلاء الفتية الممدوحة صفتهم قد اجتمعت فيهم خصال تفرّقت في غيرهم؛ فنالا بمقتضى ذلك وصف الإمامة في الدين.
10 - كانت لهؤلاء الفتية أعمال قلبية أثمرت ذوق حلاوة الإيمان، من أخصّها محبّة الله تعالى، وإيثارها على غيرها.
11 - لما وجدوا حلاوة الإيمان أثمر وجدانُهم تعريفاً ودعوةً إلى التوحيد، وقياماً في ذات الله – تعالى –.
12 - قد يفرغ القلب من أمور توجب انتقاص الإيمان بحسبها كالإنابة والخشية والتصدّع واليقين؛ حينئذٍ يربط على القلب برباط التوفيق حتى لا يخذل.
13 - صاحب الهمّة العالية اتصلت همته بالله – تعالى – طلباً وقصداً، واتصلت بخلقه دعوة ونصحاً، فوحّدت مطلوبها بالإخلاص، وطلبها بالصدق، وطريقها بالمتابعة.
14 - أول ما يجب من مطالب الرسل الضرورية مطلب التعريف بالله – تعالى – رباً ومعبوداً وبأسمائه وصفاته، وعلى هذه المعرفة تبنى مطالب الرسالة الأخرى.
15 - كان استدلال الفتية استدلالاً فطرياً تاماً من جنس استدلال الرسل؛ فهم استدلّوا بالله – تعالى – على خلقه، لا بخلقه عليه.
¥