أقول تعقيبًا على ذلك: لو أنك رجعت إلى ما قاله الفخر الرازي في هذه المسألة الخلافية- تحت عنوان: المسألة الخامسة- لرأيته يصنف هذا القول الذي تؤيده الشواهد في رأي جمهور المفسرين في المرتبة الثالثة، ويصنف القول الآخر في المرتبة الأولى .. يقول الفخر الرازي بعد أن انتهى من ذكر الأقوال الخمسة في تأويل الآية الكريمة ما نصُّه:
(فإن قيل: فأيُّ الأقاويل أليق بالظاهر؟ قلنا: الظاهر يقتضي أن السماء على ما هي عليه، والأرض على ما هي عليه كانتا رتقًا. ولا يجوز كونهما كذلك إلا وهما موجودان .. والرتق ضد الفتق؛ فإذا كان الفتق هو المفارقة، فالرتق يجب أن يكون هو الملازمة.
وبهذا الطريق صار الوجه الأول أولى الوجوه .. ويتلوه الوجه الثاني؛ وهو أن كل واحد منهما كان رتقًا، ففتقهما بأن جعل كل واحد منهما سبعًا .. ويتلوه الوجه الثالث؛ وهو أنهما كانا صلبين من غير فطور وفروج، ففتقهما؛ لينزل المطر من السماء، ويظهر النبات على الأرض).
فأين هذا الذي قاله الفخر الرازي من قوله الذي ذكره الإمام الشنقيطي عنه، مؤيدًا به رأيه .. ثم كيف يكون هذا القول هو أقرب الأقوال إلى الصواب، وهو لم يثبت، ولم تجد من صححه، كما تقول أنت؟
وأما قولك: (لم يتبين لي وجه سؤالك الأخير .. فأرجو أن تبين لي قصدك منه؟) فالحق معك فيما تقول .. ولكنني كنت أرمي من ورائه إلى أن ما قاله الأستاذ عرجون في تفسير آيات فصلت، واتخذ منه دليلاً على أن الأرض خلقت خلقاً مستقلاً عن السماوات، لا يمكن التسليم به .. فقد قال: (فهذه الآيات الكريمة ظاهرة الدلالة على أن الأرض خلقت خلقاً مستقلاً عن السماوات، وجعلت فيها الجبال الرواسي لحفظها أن تميد فتختل الحياة فوقها ... ثم ذكر ربنا تبارك وتعالى السموات ذكراً مستقلاً بحرف يفيد عند أهل اللغة الوجود المتراخي لتقريب مراتب الخلق لعقول الخلق التي لا تدرك إلا ما عرفت وما ألفت وما يصح قياسه على المعروف لها المألوف .. ).
هذا ما قاله الأستاذ عرجون .. وجاء في هامش الجلالين تعليقًا على ما قيل في تفسر هذه الآيات من قيل مفسريْه:
(قوله تعالي: (في يومين) , ثم قوله بعد ذلك: (في أربعة أيام , ثم قوله: (فقضاهن سبع سماوات في يومين) , هذا تفصيل لمثل قوله تعالي في سورة ق (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب) أي: تعب وإعياء , فتم خلق الأرض وتقدير أقواتها في مقدار أربعة أيام , وتم خلق السماوات في مقدار يومين , كل ذلك بلا ترتيب زمني , لأن (ثم) في مثل قوله تعالي: (ثم استوي إلي السماء وهي دخان) لا تفيد في حق الله تعالي ترتيبا زمنيا , لأنه تعالي لا يجري عليه زمان , فكان خلق السماوات والأرض وما بينهما في مقدار ستة أيام من غير تحديد ولا تعيين علي الصحيح .... ).
وذكر الدكتور زغلول النجار في مقال له تحدث فيه عن تفسير هذه الآيات الآتي:
(أيام الخلق الست في منظور العلوم الكونية ..
يري أهل العلوم المكتسبة مراحل خلق الكون الست حسب الترتيب التالي، والله (تعالي) أعلم بخلقه:
(1) مرحلة الرتق: وهي مرحلة الجرم الأولي الذي بدأ منه خلق السماوات والأرض.
(2) مرحلة الفتق: وهي مرحلة انفجار الجرم الأولي وتحوله الي سحابة من الدخان.
(3) مرحلة تخلق العناصر في السماء الدخانية عبر تكون نويات غازي الإيدروجين والهليوم، وبعض نويات الليثيوم.
(4) تخلق كل من الأرض وباقي أجرام السماء بانفصال دوامات من السحابة الدخانية الأولي وتكثفها علي
ذاتها بفعل الجاذبية , وانزال الحديد عليها.
(5) مرحلة دحو الارض، وتكوين أغلفتها الغازية والمائية والصخرية , وتصدع الغلاف الصخري للأرض , وبدء تحرك الواحة , وتكون كل من القارات وقيعان المحيطات , والجبال , وبدء دورات كل من الماء , والصخور , وتبادل القارات والمحيطات , وشق الأودية والفجاج والسبل , والتعرية , وتسوية سطح الارض , وتكون التربة , وخزن المياه تحت السطحية.
(6) مرحلة خلق الحياة من أبسط صورها الي خلق الانسان، ويقدر عمر الكون بما يتراوح بين 10 و 15 بليون سنة بينما يقدر عمر أقدم صخور الأرض بنحو 4.6 بليون سنة وهو نفس العمر الذي تم التوصل اليه بتحليل صخور وتراب سطح القمر والعديد من النيازك التي سقطت علي الأرض والفارق الكبير بين العمرين المقدرين لكل من الأرض والسماء (وقد خلقا في لحظة واحدة) سببه أن صخور الأرض تدخل في دورات عديدة , وأن العمر المقدر لها هو عمر لحظة تيبس قشرتها , وليس عمر تكون ذرات عناصرها , وعمر تيبس قشرة الأرض لا يشمل أيا من مراحل الأرض الابتدائية , ولا مراحل تخلق العناصر التي كونت أرضنا الابتدائية وما تلا ذلك من أحداث.
وتشير الآيات القرانية (29) من سورة البقرة , و (9 ــ 12) من سورة فصلت الي سبق خلق الأرض لعملية تسوية السماء الدخانية الأولية الي سبع سماوات , ويبدو أن المقصود هنا بالسبق هو خلق عناصر الأرض , والذي تلاه تجميع تلك العناصر علي هيئة الارض الابتدائية والتي تم رجمها بوابل من النيازك الحديدية , وتمايزها الي سبع أرضين , ثم دحوها وتكوين أغلفتها الغازية والمائية والصخرية وتشكيلها الي صورتها الحالية وذلك لان خلق السماوات والارض عمليتان متلازمتان ولا يمكن لاحداهما أن تنفصل عن الأخرى).
وقال سيد قطب رحمه الله في تفسير الآية التي نحن بصددها: (وقد يشير القرآن أحيانا إلى حقائق كونية كهذه الحقيقة التي يقررها هنا: (أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما). ونحن نستيقن هذه الحقيقة لمجرد ورودها في القرآن، وإن كنا لا نعرف منه كيف كان فتق السماوات والأرض، أو فتق السماوات عن الأرض، ونتقبل النظريات الفلكية التي لا تخالف هذه الحقيقة المجملة التي قررها القرآن؛ ولكننا لا نجري بالنص القرآني وراء أية نظرية فلكية , ولا نطلب تصديقا للقرآن في نظريات البشر، وهو حقيقة مستيقنة!
وقصارى ما يقال: إن النظرية الفلكية القائمة اليوم لا تعارض المفهوم الإجمالي لهذا النص القرآني السابق عليها بأجيال!) ... والله تعالى أعلم بمراده.