وهكذا صاروا مضرب الأمثال ,حتى أصبحنا إذا أردنا مدح أحد من علماء العرب , ألحقناه بأحدهم وشبهناه به فقلنا: فلان سيبويه عصره , أو زمخشري زمانه.
لقد أصبحت اللغة العربية , لغة الدين الحق الذي يؤمن به مئات الملايين من الناس خارج الوطن العربي , ويغارون عليها , ويفضلونها على لغاتهم الأولى , ويرون أنها أفضل اللغات وأحقها بالحياة , وهي أقوى وسيلة من وسائل الترابط والوحدة بين العرب أنفسهم , وبينهم وبين المسلمين الذين يتكلمون بها في البلاد الإسلامية , وهي أقوى من رابطة النسب والدم , لأن الدم لا يمكن استصفاؤه بسبب التصاهر والتزاوج , والعربية بما تحمله من رسالة هذا الدين وكتابه , هي أساس العلاقات الحضارية والثقافية والاجتماعية بين العرب والمسلمين , بها تتوحد أساليب التفكير والتعبير , ويمكن التفاهم والتعاون على البر والتقوى , ونصرة الإسلام , وهي الحصن الحصين الذي يحول دون احتلال عقول أبنائها بآراء وأفكار وافدة.
ولقد بلغ من حب السلف الصالح للغة العربية , وإعجابهم بعبقريتها , أن قال أبو الريحان البيروني:
(والله لأن أُهجَى بالعربية أحب إلي من أن أمدح بالفارسية) [8].
تلك من بعض حكمة الباري ـ جل جلاله ـ الذي أرسل كل رسول بلسان قومه , ولغة أمته التي بعث إليها , لدعوتها إلى الله باللسان الذي تفهم به وليكون لبيان الرسول أثر وتأثير , قال الله تبارك وتعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) [9].
ولما كانت رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم خاتمة وعامة , فقد وجب على جميع الناس والأمم الإيمان به واتباعه , ولا يكمل دين المرء إلا بتلاوة شيء من الكتاب العربي الذي أنزله الله تعالى , مما يجعل لغته لغة أتباعه وأمته , وأمة العروبة ليست أمة بالنسب والدم فقط , وإنما من تكلم العربية فهو عربي اللسان والثقافة والانتماء , وقد كان العرب يقولون: كل من سكن بلاد العرب وجزيرتها ونطق بلسان أهلها، فهم عرب [10].
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها صهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي , فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل , فما بال هؤلاء؟
فقام معاذ بن جبل , فأخذ بتلابيبه ثم أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بمقالته , فقام النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً يجر رداءه , حتى دخل المسجد ثم نودي: إن الصلاة جامعة , فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد:
أيها الناس إن الرب رب واحد , والأب أب واحد , والدين دين واحد , وإن العربية ليست لأحدكم بأب ولا أم , إنما هي لسان , فمن تكلم بالعربية فهو عربي , فقام معاذ بن جبل فقال: بم تأمرنا في هذا المنافق؟
فقال: دعه إلى النار , فكان قيس ممن ارتدَّ فقتل في الردة [11].
إذن العربية ليست بالولادة ولا بالنسب والسلالة , وإنما بالكلام , فمن تكلم العربية فهو عربي!
ولذلك استطاعت العربية أن تجمع تحت رايتها أمماً وأنساباً وأعراقاً ودماء شتى ممن يدينون بالإسلام.
ثم إن علوم العربية الرئيسية , وهي علم اللغة والنحو والصرف والبلاغة بأقسامها الثلاثة , الفضل الأول في نشأتها ونموها واستمرارها يرجع إلى القرآن الكريم , وحرص المسلمين الشديد على المحافظة عليه , والدفاع عنه , وبيان إعجازه , ولما فزع العرب من انتشار اللحن في العربية , هبّوا لتقنين العربية بابتكار النحو لدرء الخطر عنه , وتعليم الداخلين في الإسلام العربية مقعّدة ومبوَّبة , ثم كان ابتكار نقط الإعراب الذي تطور إلى الشكل المعروف (الفتحة والكسرة والضمة والسكون).
ولقد اشترط علماء الإسلام على من يريد تفسير القرآن الكريم , أن يكون واسع العلم بالعربية وأساليبها وعلومها وعلوم الإسلام التي منها علوم القرآن , لاستنباطها منه , ونشأتها في رحابه , واستمرار الحياة لها بحفظه , قال مجاهد: (لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر , أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالماً بلغات العرب) [12].
وقال الإمام مالك: (لا أوتى برجل غير عالم بلغات العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالاً) [13].
وقال الإمام الشافعي: (فإن قال قائل: ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب لا يخلطه فيه غيره؟
¥