تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

رابعاً: اختيار المفردة بناءً على موافقة السياق: فقد تختار المفردة القرآنية مع أنه يتصور قيام غيرها مقامها وعند التأمل نجد أن هذا الاختيار مشروط بموافقته لمعنى يفهم من السياق، فلو أقيمت أية مفردة غير هذه المفردة لما كان لقيامها محلها شيء من الفائدة التي حققها الاستخدام الأول كقوله تعالى: (وما هو بقول شاعرٍ قليلاً ما تؤمنون ولا بقولِ كاهنٍ قليلاً ما تذكرون) (الحاقة: 41، 42) فما الداعي إلى أن تكون الفاصلة في الآية الأولى (تؤمنون) وفي الثانية (تذكرون) وماذا لو لم يكونا كذلك؟ والجواب عن هذا أن مخالفة القرآن لنظم الشعر مخالفة ظاهرة وواضحة لا تخفى على أحدٍ فالقائلون بأنه شعر كان قولهم كفراً وعناداً محضاً، فناسب ختمه بقوله (قليلاً ما تؤمنون) أما مخالفته لنظم الكهان وألفاظ السجع فليست بمثل ذلك الوضوح فيحتاج فيها إلى تدبرٍ وتذكرٍ لأن كلاً منهما نثر فليست مخالفته لهما في وضوحها لكل أحدٍ كمخالفته للشعر .. فحُسن ختمة بقوله (قليلاً ما تذكرون) (4).

خامساً: اختيار المفردة لاعتماد الأسلوب القرآني الحسية في الوصف: عند التأمل في هذه السور يتبين للمتأمل أن الأسلوب القرآني فيها كان يعتمد إلى الوصف الحسي الذي تمرُّ عليه النفس دون أن تتنبه إلى أن هذا مستعار أو أنه عموماً أسلوب مجازي خرج عن المعنى المباشر إلى معنى ثانوي، بل أنّ المُلاحظ في الأسلوب القرآني ما يمكن أن يُسمى (التشريك في الوصف) ما بين المعنى الحسي والمعنوي الذي يصور به، إذ تتماهى اللفظة ما بين معناها المباشر والمعنى الذي تخرج إليه بدلالة السياق من غير أن يكون هناك ما يرجح أحد الاستعمالين على الآخر، فمثلاً قوله تعالى: (قال أوسطهم ألم أقل لكم لو لا تسبحون) (القلم: 28) فلم أجد من فسره بغير أعدلهم وأفضلهم (1) فإذا كان الأمر هكذا فَلِمَ عُبِّرَ عن هذا المعنى بلفظ (أوسطهم) ولم يقل (أفضلهم) أو (أعدلهم) إنها الحسية في الوصف التي تلصق المعنى بذهن المتلقي مباشرة دون أن يحس بانتقالٍ على مستوى السرد هنا من المعاني المباشرة إلى المعاني الثانية في اللفظة لأنهما لا يتقاطعان في أي وجه داخل السياق القرآني، ومثل هذا قوله تعالى: (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) (القمر: 46) (2) فـ (المرارة لا يوصف بها إلا المذوقات والمطعومات ولكن الساعة لما كانت مكروهة عند مستحقي العقاب حَسنَ وصفها بما يوصف به الشيء المكروه المذاق …) (3) وكذلك قوله تعالى: (فَصبَّ عليهم ربُك سوط عذاب) (الفجر: 13) فالسوط ما يضرب به تشبيهاً بعذاب السوط، وقيل إشارة إلى معنى المخالطة الذي يخرج إليه الفعل (ساط) أي خلط أنواع العذاب (4) أو مخالطة الدماء واللحوم جراء العذاب (5).

فليس من السهولة تمييز المعنى المراد على وجه التحقيق والفصل بين ما توحي به اللفظة وتخرج إليه من دلالات وبين معناها المباشر، فلقد أصبح النص وكأنه قد استغل كل هذه المعاني في لفظةٍ بقيت بين الحقيقة والمجاز تُفهم الأمرين من غير التباس أو غموض وبهذا نُدرك استخدام الأسلوب القرآني (ألم تَرَ) في مخاطبة المتلقي وهي كما قال المفسرون بمعنى (ألم تعلم) (6) فلِمَ استخدم الفعل (ترى) دون (تعلم) مع أنه بمعناه ويبدو أن الزمخشري أوّل من تنبه لهذا فقال ( .... والمعنى: أنك رأيت آثار فعلِ الله بالحبشة وسمعت الأخبارية متواترة فقامت لك مقام المشاهدة) (1) غير أن الشيخ الشعراوي كان أدق من فصّل ذلك قائلاً (إن العلم قد تكون له وسيلة أخرى غير الرواية بأن يكون مخبراً به من أحد ... ولكن الخبر من الحق سبحانه وتعالى خبر وصل في مرتبة اليقين إلى مرتبة أنك ترى) (2) فهذا مما ينصب في حسية التعبير.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير