تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قال تعالى: (في سلسلةٍ ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه) (الحاقة: 32) وإنما سميت هكذا لتكرر حلقاتها وتتابعها (تسلسل الشيء اضطرب كأنه تُصور منه تسلسل متردد، فردد لفظه تنبيهاً على تردد معناه ومنه السلسلة ... وماءٌ سلسل متردد في قعره حتى صفا ... ) ((14)) قال تعالى: (عيناً فيها تسمى سلسبيلا) (الإنسان: 18)، قال تعالى: (ريحٍ صرصرٍ عاتية) (الحاقة: 6) جاء في تهذيب اللغة معزواً إلى الخليل أصرَ الجندب صريراً وصر الباب يصرّ وكل صوت شبه ذلك فهو صرير إذا امتد فكان فيه تخفيف وترجيع في إعادة ضوعفَ لقولك صرصر الأخطب صرصرة) ((15)) وجاء في الخصائص: (قال الخليل كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة ومدَاً، فقالوا صرّ وتوهموا في صوت البازي تقطيعاً فقالوا: صرصر) ((16) قال تعالى: (من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس) (الناس 3 - 5)، فـ (لما كانت الوسوسة كلاماً يكرره الموسوس ويؤكده عند من يلقيه كرروا لفظها بأزاء تكرير معناها فقالوا: (وسوس وسوسة) فراعوا تكرير اللفظ ليفهم منه تكرير مسماه … وقد عُلم بهذا أن من جعل هذا الرباعي بمعنى الثلاثي المضاعف لم يُصب لأنّ الثلاثي لا يدل على تكرار بخلاف الرباعي المكرر … فتأمله فأنه مطابق للقاعدة العربية في الحذو بالألفاظ حذو المعاني .. ) (17).

وبهذا يُرى التوظيف الدقيق للصوت في خدمة المعنى بالإضافة إلى ما يحققه من جمالٍ صوتي، وقد تنبه الرافعي إلى هذا الجمال الذي تحققه البنية القرآنية ذاكراً أن ما يوجد في القرآن من كلماتٍ طويلة تتسم بأنها من الألفاظ المركبة التي ترجع عند تجريدها من المزيدات إلى الأصول الثلاثية أو الرباعية ولم ترد في القرآن لفظة خماسية الأصول لأنه مما لا وجه للعذوبة فيه إلا ما كان من اسم عُرِّبَ ولم يكن في الأصل عربياً: كإبراهيم وإسماعيل ... ولا يجيء به مع ذلك إلا أن يتخلله المدّ فتخرج الكلمة وكأنها كلمتان ((18)).

ب) صفات حروفها: تكاد تطرد أراء الباحثين على أن من الألفاظ ما هو مصور لمعناه بجرس حروفه ولعل أهم ما يتبادر إلى الذهن كمؤثر صوتي هو اختلاف المفردات بصوتٍ واحد يكون مهموساً في أحدهما مجهوراً في أخرى لذلك نرى القرآن يعدل عن إحداهما إلى الأخرى بحسب حاجة السياق أو الصورة التي تُرسم كما في استخدامه تعالى لكلمة (نضخ) بدلاً من (نضح) وكلاهما كان يعني خروج الماء فقال تعالى: (فيهما عينان نضاختان) (الرحمن: 66) فـ (النضخ والنضح واحد إلا أن الأول أكثر وهذه من فوائد الإبدال الصوتي في العربية ومثل هذا الهدير والهديل) ((19)) ولفظة (تنضخ) التي تعبر عن فوران السائل في قوة وعنف، إذا قورنت بنظيرتها (تنضح) التي تدلّ على تسرب السائل في تؤدة وبطء، فسوف يتبين لنا أن صوت الخاء في الأولى له دخل في دلالتها ((20))؛ لأن الأصوات الفخمة القوية تواتي المواقف القوية ((21)) وهذا الأسلوب كثير في كلام العرب إذ يتغير المعنى بتغير صوتٍ من أصوات لفظه كما ذكر ابن جني في التفرقة بين (خضم) و (قضم) إذ يستخدم الصوت الأقوى غالباً للدلالة على المعنى الأقوى ((22)).

على أن بنت الشاطيء لم تكد تهتم بمثل هذه الفروق حيث نفت أن يكون معنى (القد) في مثل قوله تعالى: ( ... كنا طرائق قِددا) (الجن: 11) مخصوصاً بالقطع طولاً وهو ما قاله الراغب في المفردات ((23)) قائلة: ولم أرَ لهذا التخصيص وجهاً ((24))، ويبدو أنها، رحمها الله، لم تطّلع على ما كتبه (أبن جني) في الخصائص عن هذا حيث وجهه صوتياً في تعليل الفرق بين (قط) و (قد) فقال: (قط الشيء) إذا قطعه عرضاً و (قده) إذا قطعه طولاً، وذلك لأن منقطع الطاء أقصر مدة من منقطع الدال وكذلك قالوا: (مدّ الحبل) و (مت إليه بقرابةٍ) فجعلوا الدال لأنها مجهورة لما فيه علاج وجعلوا التاء - لأنها مهموسة - لما لا علاج فيه) جرياً منهم في جعل (الصوت الأقوى للفعل الأقوى والصوت الأضعف للفعل الأضعف) ((25) بل إنّ القيمة الصوتية للحرف لا تتحدد في جرسه فقط بل حتى باقترانه مع الأصوات المجاورة في اللفظة كما في قوله تعالى: (القارعة ما القارعة .. ) (القارعة: 1 - 2) فهذه اللفظة المعبرة عن الشدة والقوة إنما تمّ لها ذلك من طبيعة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير