تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن شرِّ حاسدٍ إذا حَسَد) (سورة الفلق) فلماذا عدلَ إلى (وقبَ) وفي السعة أن يقال إذا (غسق) فيكون التعبير (ومن شر غاسقٍ إذا غسق) ولاسيما وأن مثل هذا التكرار قد استعمل في السورة نفسها (ومن شر حاسدٍ إذا حسد) وبذلك تنسجم صوتياً مع الفواصل السابقة. (يقال: غسق الليل وأغسق، إذا أظلم) (37)، وهم يفسرون (إذا وقب) بالليل (إذا دخل في كل شيءٍ وأظلم ويقال: غسق وأغسق) (38) أو دخل وهجم ... بظلامه (39)، فإذا كانت اللفظتان متقاربتين إلى هذه الدرجة من الدلالة فما هو سبب العدول إلى (وقب) دون (غسق) مع أنّ الثانية هي التي تحقق الجرس الصوتي المتشاكل مع ما موجود من فواصل ولم أجد من استطاع أن يتنبه للمزية الإعجازية في الأسلوب القرآني في هذه الآية إلا الشعراوي فقد أفاد الشيخ من الإيحاء الدلالي لـ (وقب) اعتماداً على أصلها في المعنى ليشكل بهذا الفعل صورة قرآنية ما كانت لتحصل أبداً لو استخدم فعل (غسق) فالأصل في الغاسق الدافق والأصل في الوقب النقرة في الجبل (40) يجتمع فيها الماء ثم تسيل فإذا بلغ من شدة المطر أنه يعمل حفرة في الجبل فهو إذن مطرٌ غزيرٌ شديدٌ جداً وهذا المطر لا ينشأ بهذه الصورة إلا من غيم وسحاب وهذا الغيم سيكون لذلك كاسياً للسماء، والإنسان لا يستغرب أو يخاف الظلام في الليل، لكنه يستغرب منه في النهار والشمس طالعة ثم يكسوها السحاب وبعد ذلك ينزل المطر، الظلمة في النهار هي الملفتة وأما في الليل فلا وجه للاستغراب أو الخوف … فكأنهم أخذوا (الغاسق) الذي هو الليل المظلم حين يتدفق ويسيل ويشمل الكون من الماء الذي ينزل (ينقر في الجبل) وهو لا ينقر في الجبل بهذه القوة إلا إذا كان غزيراً ودائماً وطويلاً لأنه يحتاج لمدة طويلة ليفعل ذلك إذن فالغيم حجب الشمس ممّا أدى إلى الظلام، الظلام الذي هو في غير موضعه (41)، مما سيكون أدعى للخوف والرهبة، وربما ظنّ ظآنٌّ بعد مثل هذا وليس ببعيد إذ إن مدار قول أغلب من فسّر الآية كان على مجيء الظلام بعد النور يقول ابن القيم: (والظلمة في الآية أنسب لمكان الاستعاذة) (42)، ولعله مما يؤيد قول الشعراوي قوله (صلى الله عليه وسلم) للسيدة عائشة (رضي الله عنها) عن القمر (استعيذي بالله من شرِّ هذا فإن هذا هو الغاسق إذا وقب) (43) إذ هو اختفاء مصدر الضوء ولم يرتض ابن القيم تفسير الحديث بأنه الخسوف لأن أحداً من أهل اللغة لم يقل بذلك (44) ويؤكد كلام الشعراوي السابق ما فهمت السيدة الفاضلة بنت الشاطيء من دلالة (الغساق) - عند العرب - على ما (يسيل من صديد والجرح المنتن منقولاً إليه من إغساق العين إذا دمعت من رَمَدٍ ومنظوراً في الغساق إلى غشية الرؤية وإظلامها في دمع العين يسيل من رَمَدٍ …) (45).

2. اختيار فاصلة خاصة منفردة: كما في الفاصلة الأخيرة من سورة الانفطار قال تعالى: (يوم لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً والأمرُ يومئذٍ لله) (الانفطار: 19) حيثُ يُلاحظ في هذه السورة عدة اختيارات على مستوى المفردة منها: أن السورة كانت تلتزم فاصلة واحدة لكل سياق داخلها وأنها التزمت منذ الآية الرابعة وإلى الأخيرة (النون) و (الميم) روياً للفاصلة، ويُلاحظ أنّ لفظ الجلالة (الله) لم يرد إلا فاصلة في الآية الأخيرة (46)، كما يُلاحظ أنه تمّ العدول عن لفظ الجلالة الله إلى ربك في السورة (يا آيها الإنسان ما غرّكَ بربكَ الكريم) (الانفطار: 6) فما الذي جعل الفاصلة الأخيرة فيها تختار بهذا الشكل لو لم يكن هناك دلالة معنوية أهم في الاختيار من الجانب الصوتي - وإن كانت تحقق ملحظاً جمالياً بحد ذاتها على المستوى الصوتي أفلا يوحي تفردها في نهاية السورة واختتام السورة بها بتفرد المرجعية له سبحانه دونما مشارك واختتام الأمور إليه (47)، واختيرت الهاء فاصلةً فأعطت صوتياً هذا المعنى حيث يتلاشى النفس عندها تماماً لكونها صوتاً مهموساً (لا يتذبذب الوتران الصوتيان حال النطق به والوضع الذي يتخذه الوتران الصوتيان في حالة الصوت المهموس هو نفس الوضع الذي يتخذانه في حالة التنفس العادي) (48)؛ لذلك فأن الصوت المهموس يحتاج في نطقه إلى قوة من إخراج النفس (الزفير) أعظم من التي يتطلبها نطق الصوت المجهور (49)، وبمجرد قراءةٍ متأنيةٍ في هذه السورة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير