تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقد استخدم الأسلوب القرآني أسلوب التثنية للتعبير وإرادة الجمع (واعلم أنه قد جاءت التثنية يراد بها الكثرة ... ) (38)، قال تعالى: (ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير) (الملك: 4) وأغلب المفسرين على أن (كرتين) يراد بها الجمع (كرات) لا التثنية (39)، وإن قال بعضهم بإرادة التثنية (40) وليس بين القولين تعارض أو في استخدام مثل هذا الأسلوب مخالفة المدلول للدال عليه، فمن قال بأن (كرتين) يراد بها كرات جعل كرتين كقولك: (لبيك ... ) وتريد إجابات كثيرة بعضها في إثر بعض (41)؛ لأن بعدها (ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير) أي مزدجراً كليلاً، ولا ينقلب البصر مزدجراً كليلاً من كرتين فقط فتعيَّن أن يكون المراد بـ (كرتين) التكثير لا الكرتين فقط … (42) ورجوع البصر كليلاً مزدجراً عند من قال بالمرتين حاصلٌ أيضاً فالمنصوص هنا إرجاع البصر كرتين، ولكنَّ حقيقة النظر أربع مرات الأولى في قوله تعالى: (ما ترى في خلق الرحمن …) (الملك: 3) والثانية في قوله تعالى: (فارجع البصر هل …) (الملك: 3) والثالثة والرابعة في قوله تعالى: (ثم ارجع البصر كرتين) وليس بعد معاودة النظر أربع مرات من تأكيد (43).

وهكذا هو الأسلوب القرآني مبني بما يجعله يشع بكل اتجاه ملبياً كل حاجة مخاطباً كل ملكة عند الإنسان وبما يجعله قابلاً لقراءاتٍ متعددة وبصورة جديدة تحمل القارئ على أن يحلق بخياله دونما تجاوز لأي حقيقة تاريخية كانت أم لغوية وبهذا نفهم ما ذهب إليه الشيخ الطاهر بن عاشور في ذهابه إلى أن التثنية في كرتين ليس المراد بها عدد الاثنين الذي هو ضعف الواحد (44)، وإنما التثنية مستعملة كناية عن مطلق التكرير (45)، فكرتين تثنية كرة وهي المرة وعبّر هنا بالكرة وهي مشتقة من الكرِّ وهو العَود لأنها عود إلى شيء بعد الانفصال عنه (46) والعجيب أن لفظة (كرتين) تعطي المعنيين السابقين عند المفسرين فكل كرة هي ذهاب بعد رجوع فيكون الحاصل أربع مرات، فالتثنية مرادة إذن ولكن ليس بمعنى المرتين (47)، وبهذا يفهم سر إيثار كرتين في الاختيار - كما يقول ابن عاشور - دون مرتين وتارتين (لأن كلمة كرة لم يغلب إطلاقها على عدد الاثنين فكان إيثارها في مقام لا يراد فيه اثنين أظهر في أنها مستعملة في مطلق التكرير دون عدد اثنين أو زوج وهذا من خصائص الإعجاز ألا ترى أن مقام إرادة عدد الزوج كان مقتضياً تثنية (مرة) في قوله تعالى: (الطلاق مرتان) (البقرة: 229) (48).

التعبير عن المثنى بالجمع:

قال تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صنعت قلوبُكما) (التحريم: 4) والعرب تعبر عن التثنية بلفظ الجمع ولا يرجحون التثنية كراهية أن يجمعوا بين تثنيتين في اسم واحد (49)، وهذا هو الأكثر والمطرد في كلام العرب فيما كان في الجسد منه شيء واحد لا ينفصل كالرأس .. والقلب (50) فـ (الخطاب إلى الأثنين والفاعل جمع وهذا شيء عرفناه في لغة التنزيل اقتضته حكمة وبلاغة) (51)، فإذا كان الخطاب هنا لمثنى مؤنث (52)، فيكون لهذا الاختيار قصدٌ في استخدام هذا الأسلوب قال تعالى: (… ما جعل الله لرجلٍ من قلبين في جوفه) (الأحزاب: 4) ووفقاً لمفهوم المخالفة يكون لازم الآية (قد جعل الله للمرأة قلبين في جوفها) صحيحاً لأن المرأة عند الحمل تمتلك قلبها وقلب جنينها وبذلك نعرف السر في عدول الآية عن القول (في صدرها) إلى (في جوفها) مع أن القلب في الصدر، ليدخل الرحم في لفظ (الجوف) فأيّ دقةٍ أعلى في الاختيار وأي قصديةٍ أبدع في العدول من هذه، وبهذا استخدم القرآن الأسلوب العربي في التعبير لغرضٍ بلاغي دقيق دون مخالفة للحقيقة وفي هذا غاية الإعجاز.

ثالثا ً: الاختلاف بين المفردة والجمع:

من الظواهر الأسلوبية اللافتة في التعبير القرآني ملائمة صيغة الأفراد لموقعها الخاص بها وملائمة صيغة الجمع لموقعها الخاص بها (فالسماء) ترد مجموعة في آيات كثيرة على حين ترد (الأرض) مفردة دائماً وفي القرآن كله. مع أنها تنتظم وأيّاها في سياق واحد (53)، وقد اختلف في سبب ذلك قديماً وحديثاً ذكر ابن القيم عدة أسبابٍ لذلك تندرج تحت سببين أساسيين هما (فَرقٌ لفظي) و (فرقٌ معنوي):

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير