لقد خاض بنا زعماؤنا معارك 48 و 67، كي تزرع اليأس في النفوس وتتحطم معنويات الشعوب، ولكن إيمان هذه الأمة لا يزال يدفعها إلى ميدان الوغى دفعاً، فاضطر الحكام إلى خوض مسرحية 73، وحققوا فيها نصراً تافهاً للتنفيس عن الغيظ المكبوت والجمر المتقد في النفوس والقلوب ليعبروا من هذا النصر التكتيكي الصغير إلى التفاوض مع الغاصب والتنازل له عما اغتصبه .. وإلا فهل يمكن مقارنة معركة الكرامة ونصر 73 بهزيمة 48 و 67؟؟
التستر بالدين .. ورفع راية " في سبيل الله "
وتدرك الشعوب من جملة ما تدرك وهي تصحو من سباتها أن أهم أسباب هزائمها المتلاحقة هو بعدها عن منهج الله .. حيث أنها قد جربت كل الرايات الوضعية فلم تحصد إلا الهزائم وانكبات … وتتذكر زماناً رفعت فيه راية الإسلام فسادت وملكت وحققت اعظم الانتصارات … كل هذا وغيره تسمعه الجماهير من القيادات المؤمنة والدعاة إلى الله فتستجيب لهم وتبدأ بهجر الرايات الأرضية والقادة الذين يدعون إليها … وهنا يخشى الزعماء وقادة الهزيمة أن تتركهم الشعوب وتسير خلف القيادات المؤمنة الصادقة … فيلجأوا إلى التستر بالدين، وربما خاضوا حربهم في رمضان، وربما اظهروا التودد للعلماء وزاروهم في بيوتهم كما حدث مع "الملأ " إذ أتوا إلى النبي، ربما وضع المناضلون على رأس مجلسهم "جبة وعمامة"، وربما تسموا باسم مقتبس من القرآن، كل ذلك حتى ينخدع الشعب بهم ويظن انهم على الإيمان فلا ينبذهم ويتبع القيادات المؤمنة.
إن التاريخ يذكر انه خلال ثورة ال 36 اجتمعت وتوحدت عدة أحزاب وتنظيمات وأظهرت تأييدها للثورة ثم كان لها دور، بالتنسيق مع بعض العرب والغربيين في احتوائها وتحويل مسارها وإيقاف الإضراب العام بعد ستة أشهر.
عِبَرْ طالوتية:
ونعود إلى قصة طالوت نستلهم منها مزيداً من العبر والدروس .. فالمتوقع انه بمجرد أن نكص الزعماء عن القتال أن يتولى معهم جنودهم وأنصارهم، وحتى الذين لم يتولوا فليسوا جميعاً صادقين حيث انهم اعترضوا على قيادة طالوت قائلين " أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالمُلك منه ولم يؤت سعة من المال " … وهنا يظهر هدفهم سافراً واضحاً وهو أن يكون القائد الأعلى واحداً منهم ويكون الكيان الوحدوي هشاً … ويظل كل واحد منهم على كرسيه ويبقى التمزق على حاله … انهم يرفضون زعامة طالوت لأنهم _ في تصورهم _ أحق بالملك منه
…فهم الذين ورثوا الزعامة كابراً عن كابر … وهم أصحاب الغنى والثراء … وهم الذين شاركوا في الحروب السابقة وبالتالي هم الممثلون الشرعيون للشعب.
لقد ذهب زعماء القوم إلي النبي ليفوتوا الفرصة على طالوت وأمثاله من القيادات المؤمنة الصاعدة وحرصوا على أن يكون التعيين صادراً من القيادة الروحية_ النبي _ ولكن النبي الفطين الحكيم المؤيد بوحي الله، يعيّن القائد الذي لا يصلح سواه لهذه المرحلة وليس ذلك فحسب بل انه قبل ذلك يكشفهم أمام جماهيرهم حين يعلمهم بان الله قد فرض عليهم القتال فيكون منهم النكوص.
ويشاء الله تعالى أن يجعل لطالوت كرامة يزيد فيها من رصيده في القلوب وقبوله في النفوس وليطوع له الرقاب، فتكون آية ملكه وعلامة اصطفاء الله إياه أن يأتي التابوت إلى قومه بني إسرائيل تحمله الملائكة _ وهو صندوق فيه بعض آثار لما تركه آل موسى وآل هارون يبدو أن بني إسرائيل فقدوه في إحدى معاركهم التي هزموا فيها.
وكأن رب العزة يجعل في هذا الزمان آيات وكرامات للناس في ارض الإسراء لتكون دليلاً وآية على ملك الفئة المؤمنة واصطفائها لقيادة المسيرة الجهادية، ومن اظهر هذه الآيات ما يحققه تعالى على أيدي الصادقين من إثخان في العدو، إضافة إلى استمرارهم في الجهاد وتوقف غيرهم .. فإن ما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل.
اختبار وتمحيص:
ويدرك طالوت أن في جيشه من التحق به خجلاً أو بدون إيمان واقتناع، وان فيهم المنافقين ومرضى القلوب وضعاف النفوس الذين إذا كانوا في الجيش زادوهم خبالاً … فكان لا مناص من استثنائهم … ويقف طالوت خطيباً بالجند فيعلمهم أن الله مختبرهم بنهر فمن شرب منه فليس من طالوت وليفارق الجيش وأما من يصبر ولم يشرب أو شرب غرفة بيده فهو فقط الذي يسمح له بالاستمرار.
¥