تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قال ابن جرير مبيناً مناسبة الآيات اعتماداً على السياق: "يعني بذلك - جل ثناؤه - {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ} [النساء 39] فإن الله لا يبخس أحداً من خلقه أنفق في سبيله، مما رزقه من ثواب نفقته في الدنيا، ولا من أجرها يوم القيامة .. وإنما اخترنا هذا التأويل لموافقته الأثر عن رسول الله ×، مع دلالة ظاهر التنزيل على صحته؛ إذ كان سياق الآية التي قبلها، التي حث الله فيها على النفقة في طاعته، وذم النفقة في طاعة الشيطان، ثم وصل ذلك بما وعد المنفقين في طاعته بقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الآية [النساء 40] " ([5]).

المثال الثاني: في مناسبة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة 254].

هذه وردت بعد قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة 253] ومناسبتها تظهر بالتأمل في السياق فإن ماقبلها وارد في سياق الإخبار عن حتمية الاختلاف والاقتتال الموافق للسنة الربانية والحكمة الإلهية في إرادة ذلك. وذلك يستوجب الإعداد والتهيؤ، لذا أمر بالإنفاق. ويؤيد هذا قوله في ختامها +الْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ" فكأنه قيل: (منهم من آمن ومنهم من كفر .. والكافرون هم الظالمون، فأعدوا لقتالهم وأنفقوا مما رزقناكم في ذلك)

قال أبو حيان: " مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما ذكر أن الله تعالى أراد الاختلاف إلى مؤمن وكافر، وأراد الاقتتال، وأمر به المؤمنين، وكان الجهاد يحتاج صاحبه إلى الإعانة عليه، أمر تعالى بالنفقة من بعض ما رزق، فشمل النفقة في الجهاد" ([6]).

فتأمل أثر السياق وهو ذكر القتال في بيان الربط بين الآية وما قبلها مع الاختلاف الظاهر بينهما.

المثال الثالث: في مناسبة قوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} [البقرة 238].

فقد جاءت هذه الآية في وسط الحديث عن الطلاق والمشكلات الأسرية، وهي تستوقف كل قارئ لها في طلب مناسبتها، وهذا أمر مقصود في غرض الآية، وبالتأمل في السياق تظهر مناسبتها بكل جلاء، وهي متضمنة عدة وجوه في المناسبة منها:

أولاً: أنه لما أطال الحديث في أحكام الأسرة وأحكام النساء خاصة وما يتعلق بهن، وهي موضوعات تصرف هم الإنسان وتشغله عن عبادة ربه وقضاياه الكبرى التي هي عبادة الله تعالى وقضايا الأمة، أمر الله تعالى بالمحافظة على الصلاة مباشرة لتنتزع نفوس المؤمنين من الانشغال بحقوق الخلق لترفعهم إلى الانشغال بحقوق الحق تعالى ([7]).

قال البيضاوي: "لعل الأمر بها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها" ([8]).

ثانياً: أنه لما كان الحديث في الآيات عن الطلاق والقتال، وهما يمثلان أعظم أوقات الأزمات الداخلية والخارجية، ويحصل بسببهما الهم والقلق، ذكر الله تعالى سبيل الخلاص والخروج من هذه الأزمات والدواء الناجع لها، وهو المحافظة على الصلاة التي هي أعظم ما يسكن النفوس عند القلق ويزيل الهموم ويثبت القلوب.

فانظر إلى أثر السياق في بيان المناسبة، وهذا يؤكد لنا أن المناسبة جزء في السياق؛ إذ أن السياق هو الذي ربط بين الآية وما قبلها وما بعدها.

وكمال أثر السياق في المناسبات يظهر في سياق السورة، وترابط المقاطع والموضوعات فيها وسر الترتيب بينها، وهذا ما يظهر في سياق سورة البقرة بإذن الله تعالى. وقد أجمل ذلك صاحب النبأ العظيم بكلام نفيس ([9]).


([1]) ((البرهان في علوم القرآن)) (1/ 36).

([3]) ((نظم الدرر)) (1/ 18).

([4]) ((نظم الدرر)) (1/ 5).

([5]) ((جامع البيان)) (4/ 91).

([6]) ((البحر المحيط)) (2/ 604).

([7]) انظر: ((تفسير المنار)) (2/ 436).

([8]) ((أنوار التنزيل)) (1/ 128).

([9]) انظر: ((النبأ العظيم)) (ص204).

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير