[علم السياق القرآني [7] ((((منهج الكشف عن السياق وتعيينه، وكيفية الوصول إليه.))))]
ـ[محمد الربيعة]ــــــــ[03 Mar 2007, 07:35 م]ـ
تمهيد:
هذه الحلقة من أهم الحلقات المتعلقة بالسياق القرآني، إذ هي طرح منهج عملي للكشف عن السياق، وهو خلاصة تجربة وفقني الله لها خلال بحثي لسورتي الفاتحة والبقرة، أسال الله تعالى أن ينفع بها، ويمكن للأخوة الأعضاء الاستدراك أو الزيادة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ
الكشف عن السياق والوصول إليه مبني على الاجتهاد ودقة الاستنباط، وإدراكه مما تختلف فيه العقول، وذلك أنه مرتبة بعد إدراك المعنى العام، ويتطلب فهمه إشغالاً للذهن، ولذلك كانت دلالة السياق دلالة ذوقية، كما عبّر عنها الأصوليون ([1]).
قال ابن خلدون في منزلة إدراك الإعجاز في كلام الله تعالى: "وإنما يدرك بعض الشيء من الإعجاز من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي وحصول ملكته، فيدرك من الإعجاز على قدر ذوقه، فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوه من مبلغه أعلى مقاماً في ذلك؛ لأنهم فرسان الكلام وجهابذته، والذوق عندهم موجود بأوفر ما يكون وأصحه ... " ([2]).
قال الدكتور محمد محمد موسى: "وهذا من أدق بحوث النقد الأدبي، وأصعب مسائل النظم إذ النظم محكوم بتوخي معاني النحو، والسياق مؤثر في تلك المعاني، قال ابن أبي الحديد ([3]): (اعلم أن معرفة الفصيح والأفصح، والرشيق والأرشق من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق ولا يمكن إقامة الدليل عليه) ([4]) " ([5]).
ومما يدل على أن السياق يحتاج إلى دقة فهم ونظر ثاقب، ما تميز به ابن عباس رضي الله عنه في فهم كتاب الله تعالى ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ومن الشواهد على ذلك: ما روي أن عمر بن الخطاب قال للصحابة ما تقولون في {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [سورة النصر] قالوا: أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره، فقال لابن عباس: ما تقول أنت، قال: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إياه، فقال: ما أعلم منها غير ما تعلم) ([6]).
قال ابن القيم: "وهذا من أدق الفهم وألطفه، ولا يدركه كل أحد، فإنه سبحانه لم يعلق الاستغفار بعمله بل علقه بما يحدثه هو سبحانه من نعمة فتحه على رسوله ودخول الناس في دينه، وهذا ليس بسبب للاستغفار، فعلم أن سبب الاستغفار غيره، وهو حضور الأجل الذي من تمام نعمة الله على عبده توفيقه للتوبة النصوح والاستغفار بين يديه ليلقى ربه طاهرا مطهرا من كل ذنب، ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} وهو صلى الله عليه وسلم كان يسبح بحمده دائما، فعلم أن المأمور به من ذلك التسبيح بعد الفتح ودخول الناس في هذا الدين أمر أكبر من ذلك المتقدم، وذلك مقدمة بين يدي انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص، وأن منهم من يفهم من الآية حكماً أو حكمين، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه، ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره، وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر متعلق به فيفهم من اقترانه به قدرا زائدا على ذلك اللفظ بمفرده وهذا باب عجيب من فهم القرآن لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به" ([7]).
وفهم السياق والوصول إليه واستنباطه يحتاج إلى أمور:
أولاً: الفهم الصحيح للسياق وحده وأصوله وقواعده، فإنه لابد للباحث عن السياق أن يكون عالماً بالسياق وحده وما يستلزم الوصول إليه من القواعد والضوابط والأصول. ويتبع ذلك معرفة اللغة والرسوخ فيها.
ثانياً: صفاء الذهن ودقة النظر، وإدامة التأمل في كتاب الله تعالى، وبعد الغوص فيه، وتكرار البحث والتحري فيه لطلب السياق وتعيينه بقرائنه المختلفة.
قال عبد القاهر الجرجاني في كلام فصل في هذا الأمر: "ويحتاج في كثير منه إلى دقة الفطنة، وصفاء القريحة، ولطف الفكر، وبعد الغوص، وملاك ذلك كله الجامع له والزمام عليه، صحة الطبع وإدامة الرياضة، فإنهما أمران ما اجتمعا في شخص فقصرّا في إيصال صاحبهما عن غايته، ورضيا له بدون نهايته، فصحة الطبع ملكة فطرية، وإدامة النظر اكتساب مستمر، وعلاقة الذوق بالسياق تصقلها التجربة" ([8]).
¥